رواية مرايا لا تعكس الحقيقه الفصل الرابع بقلم أمل عبدالرازق
حين صعد إبراهيم خلف أميرة إلى شقتها، أبقى هاتفه على وضع التسجيل، حرصًا على أن يوثّق كل ما سيدور بينهما. وما إن فتحت الباب حتى قالت بنبرة متكلّفة:
– ادخل يا إبراهيم… واقف عندك كدا ليه؟ إيه؟ مكسوف مني ولا إيه؟ البيت بيتك… اتفضل.
دخل إبراهيم وقلبه مقبوض، وأنفاسه غير مستقرة، يقرأ آية الكرسي في سره، يلتمس ستر الله ونصره، ويُثبّت خطته. أغلقت أميرة الباب خلفه وقالت بجرأة:
– خد راحتك… البيت بيتك. مش هتأخر عليك.
– اتفضّلي… بس من فضلك متتأخريش.
دخلت أميرة غرفتها، وفي اللحظة نفسها فتح إبراهيم الباب الموصد قليلًا وجعله مواربًا بحيث لا تنتبه، ثم اتجه إلى الأنتريه وجلس، يدعو الله أن ينجيه من هذا البلاء.
أعدّت له العصير، وسكبت فيه منوّمًا، ثم تقدّمت نحوه ومعها الكوب، وابتسامة نواياها السيئة تفضحها.
– دوق بقى عمايل إيديا… وعايزاك تشربها كلها حالًا.
– إبراهيم: حاضر هشرب… بس من فضلك أنا مش مرتاح لوجودنا هنا لوحدنا. ياريت تجيبي الورق ونمشي. وبعدين… أنس فين؟
– ليه متوتر كدا؟… وبعدين أنس في بيتكم ولا انت ناسي؟ اشرب بس… وأنا مش هتأخر عليك.
وما إن دخلت غرفتها حتى أسرع إبراهيم إلى الحوض، وسكب العصير كاملًا، ثم أعاد الكوب إلى مكانه، وعاد إلى جلسته متظاهرًا بالهدوء.
خرجت أميرة بعد دقائق، وقد كشفت شعرها، وبدّلت ملابسها إلى ثياب منزلية لا تليق بوجود رجل غريب. وما إن رآها إبراهيم حتى وقف مصدومًا وقال:
– أنا هستأذن… أسماء رنّت عليّ وعايزاني ضروري.
أمسكت أميرة يده فجأة:
– إيه يا إبراهيم؟ هو مافيش في الدنيا غير أسماء؟ وأنا رُحت فين؟ ليه ظالم نفسك؟ ده أنا بلمّحلك من بدري… ولا انت هنا، كان لازم اتصرف واجيبك هنا عشان تبقى معايا لوحدي
انتزع إبراهيم يده بقوة:
– أنتِ عبيطة ولا مجنونة ولا إيه نظامك… عيب اللي بتعمليه ده. أنا راجل متجوز… اتقي الله. إيه مش بتخافي ربنا؟
– أنا بحبك يا إبراهيم… من يوم ما شوفتك! قلبي مش عايز غيرك… وأنا راضية بأي شيء… حتى لو هنتجوز في السر. أوعدك مش هحسس أسماء بأي حاجة… أنا هكون ليك لوحدك! انت مش حاسس بيا ليه؟ مافيش راجل شافني إلا وأُعجب بيا. خسارة شبابك وحلاوتك تضيع مع واحدة مريضة زي أسماء… وأنا أحلى منها كمان!
كانت تعلم ماذا تفعل… فقد جهّزت كاميرا صغيرة مخفية تسجّل كل شيء من دون صوت. أرادت أن تُسقطه، بأي طريقة… وبأي ثمن.
لكن إبراهيم ردّ عليها بحدّة لم تتوقعها:
– أنا نظرتي فيكِ كانت صح من أول يوم… كنت عارف إن في حاجة غلط. انتِ أساسًا مش بتحبي أسماء!
كل تصرّفاتِك بتقول إنك بتكرهيها. وخُنتي جوزِك مع صاحب عمره! ليه يا أميرة؟ ليه الغدر؟ ليه الوحاشة دي؟
أسماء بتحبّك… وجوزك كان بيحبّك… والاتنين خدعتيهم. ليه تقلّلي من نفسك؟ ليه واحدة تعمل كدا؟ عشان الفلوس؟ تغور الفلوس… المهم الإنسان يفضل عزيز ويعمل لآخرته.
عندِك شغل، وبيت، وصاحبة واقفة جنبك… وبرضه طماعة وبتدوري على الخراب. ربنا كان لازم يكشفك، نصيبك في الستر خلص.
رفعت رأسها، والجنون يتّقد في عينيها:
– أسماء كانت مرحلة… كانت وسيلة أوصل بيها ليك. أنا عمري ما حبيت جوزي… اتجوزته عشان أهرب من المرار اللي شوفته في بيت جدتي… أنا عانيت كتير.
– لو قدرتي تخوني جوزك… أنا مستحيل أخون مراتي.
ابتسمت أميرة ابتسامة انتصار:
– على فكرة… العصير اللي شربته فيه منوّم. ثواني وهتروح في دنيا تانية…
وبص هنا… شايف الكاميرا؟ بتسجّل كل اللي بيحصل… من غير صوت. ولو مش بمزاجك… هيبقى غصب عنك.
إيه اللي جايبك بيت واحدة غريبة؟ استحمِل بقى اللي هيحصل! أول واحدة هتتخلى عنك أسماء اللي انت مش عايز تخونها.
ضحك إبراهيم بسخرية:
– ما أنا مشربتش العصير يا مدام أميرة.
أظن كدا… اتأكدتي بنفسك.
وسمعتي… كل اللي دار بينا يا أسماء.
ادخلي بقى… شوفي صاحبة عمرك.
ظهرت أسماء، منهارة، تبكي بحرقة لا تُحتمل… وخلفها كان فريد.
قبل دقائق فقط، كانت أسماء تبكي وهي تُقسم أنّ الصور التي أرسلها لها إبراهيم مفبركة، وأن أميرة مستحيل تفعل ذلك. لكن إبراهيم أخبرها بخطته، وفتح لها الباب قليلًا، وجعلها تستمع لكل شيء بصوت مخنوق. وتواصل مع فريد، الذي كشف له المستور.
صرخت أميرة مفزوعة حين رأتهما:
– إلحقيني يا أسماء؟ جوزِك جاي يتهجم عليا في بيتي! كويس انك جيتي في الوقت المناسب، كنت عايز مني إيه يا أستاذ ابراهيم؟
أوعي تصدقي كلمة من اللي قاله. ده كدّاب وخاين… وكذا مرة لمحلي… بس انا مش عايزه اخرب بيتك وكنت مستحملة عشان بيهددني انه هيرفدني!
اقتربت أسماء منها، ودموعها تحرق وجهها:
– كفاياااااااااااااااااااااااااااا!
الكذب بيجري في دمك؟!
د انا الإيد الوحيدة اللي اتـمدّت ليكي وقت حاجتك؟!
وقفتُ جنبك… حبّيتِك… والدنيا كلها كانت بتحذّرني منك… وأنا اللي كنت شايفاكِ ملاك!
ليه يا أميرة؟ ليه تكسريني كدا؟
حسبي الله ونعم الوكيل فيكي!
عمري ما هسامحك!
ارتفع صوت أسماء، وبدأ الجيران يتجمّعون، يسمعون صرخاتها المنكسرة.
– اهو ربنا كشفك!
كسرتيني وخذلتيني.
صاحبتي اللي اعتبرتها أختي… طلعت بتدس ليا السم وبتكره ليا الخير!
عايزة جوزي يخونّي معاها!
إحنا كنا بناكل من طبق واحد يا مقرفة، كنت لما بشتري ليا شنطة بجيبلك زيها، بحوش من السنة للسنة عشان اجيبلك هدية دهب وبنسى نفسي، الوحيدة اللي كانت متعاطفة معاكِ، ابنك وقعني رجعلي ضهري لنقطة الصفر وكتمت في نفسي… يا خسارة! منك لله ربنا ياخدك
حاولت أميرة الدفاع عن نفسها:
– يا أسماء أنا بريئة… جوزِك ضحك عليا…
لكن فريد انفجر فيها:
– اخرسي!
لتاني مرة أشوفك مع راجل غريب!
أول مرة مع صاحبي… والتانية مع جوز صاحبتك!
ويا عالم مين تاني كلمتيه
بس الراجل ده ربنا نجّاه… لأنه طيب.
إنما انتِ… تتغيري.
كل اللي حصل متسجل… والكاميرا فضحتك.
ومن حفر حفرة لأخيه… وقع فيها.
هاخد ابني منك وهحرق قلبك
صرخت أميرة كالمجنونة:
– مش هسيبكم في حالكم!
هنتقم منكم كلكم!
فين ابني يا أسماء؟! خطفتيه؟!
– ابنِك السواق جايبه… ومع الأسف… مش هيعرف يرفع راسه تاني بسببِك.
مالت أسماء على كتف إبراهيم، باكية:
– انت كنت صحّ… وأنا كنت ساذجة.
دخلتها بيتي… وفي الآخر غدرت بيا، انا آسفه حقك عليا
وفجأة… بدأت عيناها تدور، وقدماها ترتجفان… ثم سقطت فاقدة الوعي بين يديه.
صرخ إبراهيم:
– أسماء!… يا حبيبتي قومي!
وسعوا افتحوا الطريق!
لازم أوديها المستشفى حالا!
حملها وهرع بها إلى سيارته، بينما وقفت أميرة تضحك ضحكة مكسورة ممزوجة بالجنون:
– ارتحت لما فضحتيني يا فريد؟
استنى بس… انتقام أميرة لسه ما بدأش!
هتشوف هعمل إيه
–اللي عندك اعمليه…
أنا قلبي هيرتاح لما أخد ابني بالقانون… والنار اللي كانت مولعة جوايا انتطفت!
صرخت أميرة وهي ترتجف:
– انت لسه ما شوفتش مني حاجة، اوعى تكون مفكر ان دي النهاية، انا هوريك يا فريد وابنك مش هتلمحه!
وأسماء؟
دي هتندم إنها اتولدت!
وابراهيم؟
هحرق قلبه على أعز ما يملك
اطلعوا برا غوروا من بيتي!
________________
انفعل أنس وهو يرى والدته تجمع الملابس بلا توقف، صوته خرج متوترًا:
_ ماما… بتعملي إيه؟
رفعت رأسها بعصبية وهي تغلق آخر حقيبة:
_ شايفني بعمل إيه… بجهّز شنطنا. إحنا مسافرين.
اتسعت عيناه بدهشة ممزوجة بالخوف:
_ هنسافر فين؟ أنا مش عايز أسيب تسنيم… ولا عايز أسيب بيتنا ولا أصحابي.
تجمدت ملامحها وعلت نبرتها بحدة مفزعة:
_ أنا مش عايزه أسمع اسم البنت دي تاني! فاهم ولا لأ.
أكملت بدموع التماسيح:
إحنا هنمشي من بكره الفجر. أم تسنيم وأبوها ضربوا أمك حبيبتك وجايين ياخدوا بيتنا يطردونا… ومعاهم أبوك. دول ناس وحشين، وهما السبب إننا نسيب البيت وتبعد عن مدرستك وأصحابك. ولما تكبر… لازم تجيب حقنا منهم. محدش فيهم بيحبنا. محدش بيحبك غيري يا أنس… انت راجلي اللي هيحميني، صح يا أنس؟
رد وهو يضم أمه والدموع تنهمر من عينيه:
_ أوعدك يا ماما هحميكي منهم كلهم، يا رب أكبر بسرعة عشان ارميهم هما في الشارع.
قالت بخبث وهي تضمه:
_ حبيب ماما وروح ماما يا أنس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلس إبراهيم أمام زوجته التي ما زالت غارقة في صمت ثقيل، اقترب منها بنبرة يشوبها القلق:
_ مش هينفع تفضلي كده كتير. بقالك شهر في نفس الحالة. لازم تفوقي يا حبيبتي… واللي حصل حصل خلاص. أحمدي ربنا إنها بانت على حقيقتها، أكيد اتعلمتي من الدرس.
الدكتور قال لازم تهتمي بصحتك وإن شاءالله هتبقي كويسة.
رفعت رأسها بوجه منكسر وصوت مبحوح:
_ قلبي واجعني يا إبراهيم… مش مصدّقة اللي حصل. ليه تعمل فيّا كده؟ يعني دا جزاء الإحسان؟… أنا بسببها فقدت الثقة في كل الناس.
تنهد بمرارة وهو يمسك بيدها:
_ الزمن بقى صعب… ومفيش حد له أمان. بس الحمد لله ربنا سترها.
أطرقت بعينين دامعتين:
_ الحمد لله.
أنا آسفة يا إبراهيم، آسفة على كل حاجة حصلت بسبب إني دخلتها بيتنا، أوعدك مش هكرر غلطي تاني.
ربت على كتفها بحنان صادق:
_ انا عارف انك طيبة وعطوفة بس محدش ليه أمان يا حبيبتي، سطحي علاقتك بالناس على اد ما تقدري وأسرار بيتك وأي نعمة في حياتك متتحكاش لحد، لأنها هتزول.
وأنا مش زعلان، أهم حاجة صحتك. سميرة بتجهز الفطار… يلا نقعد مع بنتنا ونبدأ صفحة جديدة.
نادتهم سميرة من الخارج بخفوت لطيف:
_ الفطار جاهز يا مدام أسماء… وتسنيم صحت.
ابتسمت أسماء أخيرًا ابتسامة هادئة:
_ ربنا يساعدني أتخطى، يلا نبدأ من أول وجديد… مش هثق إلا في زوجي وأهلي إنما الباقي… الله أعلم بنواياهم. ربنا رزقني بيك انت وتسنيم وعوضني عن كل حاجة وحشة، شكرا يا حبيبي.
ابتسم إبراهيم :
_ دا أنا اللي ربنا كرّمني بيكِ، ربنا يحفظك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقدمت ليلى بخطوات قلقة نحو فريد الجالس على الكنبة، بدا مذهولًا مما سمعه من البواب، فسألته بصوت خافت:
_ طمّني… وصلتوا لحل ولا برضه مفيش فايدة؟
مرّر يده على وجهه بإحباط شديد:
_ بخبط محدش بيرد. البواب قال إنها باعت الشقة… وشافها الفجر ماشية بشنط كتير وركبت عربية هي وأنس. خدت ابني وهربت يا ليلى!
وضعت يدها على كتفه تهديه:
_ إن شاء الله هيرجعلك… بس اهدى.
زفر بغيظ مكتوم:
_ أنا كنت رايح أهددها إني هحبسها لو ما سابتش الولد يعيش معايا. من الصبح بدور عليها… مش لاقيها. يا رب احفظه منها.
ترددت ليلى قليلًا قبل أن تنطق:
_ بصراحة… في حاجة لازم أقولها وخايفة.
التفت لها بتركيز:
_ متخافيش… قولي.
قالتها بنبرة مرتجفة لكنها حقيقية:
_ أنا حامل… في الشهر التاني.
تجمدت ملامحه لحظة، ثم جذبها إلى حضنه بقوة:
_ تعرفي… كنت بتمنى لو كنتي نصيبي من الأول. الجمال الحقيقي مش في الشكل… الجمال جمال القلب والأخلاق.
صدقيني دا أحلى خبر سمعته من سنين.
نفسي ابني يعيش مع أم حنينة زيك ويتربى مع إخواته ويكون بيتنا دافي وهادي.
تمتمت ليلى بخجل:
_ إن شاء الله تلاقيه… وأنا هعامله بما يرضي الله.
نهض مصممًا:
_ لازم أعمل بلاغ… مش هسيبها تهرب بيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالفعل ذهب فريد إلى قسم الشرطة، قدّم كل الأدلة والصور. ما هي إلا ساعات حتى عرف رجال الشرطة أنها غادرت إلى لندن برفقة صبحي المبلغ عنه هو الآخر. سقط الخبر على قلبه كصاعقة… الخطة كانت جاهزة، وهو الآن لا يعرف طريقًا واحدًا يصل به لابنه.
لم يجد أمامه إلا أن يستودع صغيره عند الله… ويمضي في البحث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الطائرة، جلست أميرة بجانب صبحي، تتأمل النافذة بعيون متحفزة…
همس صبحي بتوتر:
_ أكيد دلوقتي فريد بلغ وقلبين الدنيا علينا… خصوصًا فريد. ما يعرفش إنك مجهزة خطة بديلة!
ردت هي بعصبية باردة:
_ خطة إيه؟ عشرين ألف جنيه خلّوك تبيعني وتسلمني تسليم أهالي!
رفع حاجبيه دفاعًا:
_ ولو العشرين ألف ماكانوش معايا كنت هفضل في الشارع وحضرتك ولا بتسألي فيا.
لوّحت بيدها باستهزاء:
_ الخطة خطتي… وأنا اللي هكملها. أول ما نوصل… هتتجوزني عشان وجودك يبقى طبيعي قدام الولد.
تذمر صبحي وقال باندفاع:
_ أنا مش فاهم ليه مصممة تاخديه معانا… دا حمل زيادة، كنتي سيبيه لأبوه وخلينا نعيش حياتنا.
التفتت له بنظرة حادة:
_ أنس دا مفتاحي والخطة كلها مبنية عليه، هاخد كل اللي وراهم واللي قدامهم.
_ انا معرفش انتِ عايزه منهم ايه لسه، ما كفايه لحد كدا وخلينا نعيش حياتنا بقى يا ميرو، وبعدين ايه الدماغ دِ ووصلتي للناس دول ازاي؟
_ الراجل الواصل دا منافس لإبراهيم وبيكرهه وهو عايزني عشان اساعده إنه يخلص منه، اصبر بس واتفرج على اللي هيحصل، اليوم اللي هرجع فيه بلدي هرجع وأنا راسي مرفوعة.
و طالما وافقت انك تيجي معايا يقبى تقول حاضر ونعم، مش احسن قعدتك من غير شغل ولا ليك اي لازمه في الحياة، اسمع الكلام واسكت يا صبحي، وأنا اول حاجه هعملها هغير اسمك دا.
- صبحي: ماشي اللي تشوفيه، انا معاكي للآخر يا ميرو بس خايف يكون مصيرنا اسود بسببك
- اميره: مش عايزاك تخاف خالص طول ما انت معايا، واتكتم بقى عشان انس ممكن يسمعنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
<<بعد ثماني عشرة عامًا…>>
وقفَت أسماء أمام باب غرفة ابنتها تنادي بلهجة ضاحكة متضايقة:
_ نفسي أفهم… ليه المنبه بيصحّي البيت كله ما عدا صاحبة الشأن!
رفعت رأسها رأسها من تحت الغطاء:
_ ماما صحيني كمان خمس دقايق بس.
ضربت أسماء الباب بخفة:
_ قومي يا بنتي… أبوكِ هيمشي ويسيبك. والساعة تمانية!
قفزت من السرير:
_ يا نهار أبيض! كدا هيضيع السيكشن!
_ ما هو دا اللي بقوله بقالي ساعة. قومي اجهزي بسرعة وأنا هجهزلك ساندويتش، انجزي أبوكِ مستني.
ردت وهي تجري للحمّام:
_ حاضر يا ست الكل!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الجهة الأخرى… كان الهاتف يرن. رفع الشاب سماعته بنبرة ثابتة:
_ أيوه أنا وصلت الكلية خلاص.
جاء صوت أميرة الذي لم يتغير مع مرور الوقت مازالت خبيثة كما هي:
_ طمني يا حبيبي… عملت إيه يا أنس
أجاب بجمود:
_ بلاش… تناديني بالاسم دا بيفكرني بكل القرف اللي انا عيشته، أنا أسمي عمر.
_ حاضر يا حبيبي… بس متنساش كلامي ولا تنسى هدفك من رجوعك لمصر حق أمك لازم يرجع… لازم أرجع بلدي وراسي مرفوعة يا عمر.
_ متقلقيش يا ماما أوعدك ان ابنك الدكتور عمر هياخد حقك وحقي، اطمني انا حاطط هدفي قدام عيني، عمر الحديدي مش بيخسر أبدًا يا ماما
_ انا واثقه فيك يا عمر، خلي بالك من نفسك واوعى تكشف هويتك الحقيقية ل أي انسان، انا ما صدقت عرفت أغير أسماءنا
_ اطمني يا ماما، هستأذن حضرتك اقفل معاكِ عشان هتأخر
_________
_ استني عندك يا آنسة فين بوسة بابا؟!
_قالت تسنيم بمرح:
أجمل بوسه ل أجمل وأحن بابا في الدنيا، هخلص محاضرات وأجيلك على الشركة، دا انا دخلت كلية هندسة مخصوص عشان أجي اساعدك بقى وأفضل معاك علطوووول
ضمها بحنان قائلًا:
_ اتخرجي انتِ على خير والشركة وصاحب الشركة ملكك يا سندريلا
_ ربنا ما يحرمني منك ابدا يا هيما، هستأذن انا بقى عشان اتأخرت خالص
___________
كانت تسنيم تجري على السُّلَّم محاولةً اللحاق بالمدرج قبل أن تُغلق الأبواب، ولم تنتبه للخطوات القادمة من الاتجاه الآخر… لحظة واحدة، واصطدمت بجسدٍ ثابت كالجدار. ارتدّت للخلف قليلًا، بينما سقطت النظارة من يد الشاب وانكسرت على البلاط.
انحنى قليلًا يلتقط ما تبقّى منها، قبل أن يرفع رأسه نحوها بضيق واضح.
هتفت بارتباك:
_ والله أنا آسفة… آسفة جدًا… غصب عني.
رفع القطعة المكسورة بين أصابعه وقال بحدة:
_ وأنا أعمل إيه بالأسف بعد ما كسرتي نضارتي؟ مش تبصي قدّامك؟
توتّرت ملامحها وردّت:
_ كنت ببص قدّامي فعلًا… بس حضرتك ظهرت في الطرقة فجأة.
ضيّق عينيه كأنه يقاوم الصبر:
_ فجأة؟ هو أنا بطير مثلًا ووقفت قدّامك؟ عمومًا اللي حصل دا قلة ذوق، والطريقة اللي ماشيّة بيها دي غلط.
ارتفع حاجباها غضبًا:
_ لعلمك… أنا اعتذرت، ومش قليلة الذوق. وبعدين لو زعلان على النضارة… خلاص، هدفعلك تمنها حالًا.
ضم قبضته على النظارة المكسورة وقال بصوت منخفض لكنه لاذع:
_ الحكاية مش فلوس… النظارة دي غالية عندي لأنها كانت هدية من إنسان غالي. عمومًا… لحسن حظك أنا عندي محاضرة، و ياريت ما اشوفكيش تاني… عشان ساعتها هتزعلّي.
تمتمت باستهانة وهي تستدير مبتعدة:
_ وهيكون أحسن كمان… إني مشوفش حد زيك تاني.
________البيدج بتاعتي حكايات أمل للكاتبه أمل عبدالرازق
دخل هو المدرج أولًا بينما كانت تلحق به بعد دقائق… لكنّ خطوته الفجائية أمام الباب أوقفتها.
نظر إليها ببرود:
_ ثانية واحدة… رايحة فين؟
زفرت بضيق:
_ داخلـة المدرج طبعًا… عندي محاضرة.
اقترب خطوة ومال برأسه نحوها:
_ ممتاز… وبالمناسبة، حق نضارتي هاخده منك… ودلوقتي.
تراجعت خطوة وقالت بحدة:
_ حق إيه؟ أنا وقعتها غصب عني واعتذرت! ممكن تبعد شوية من فضلك؟
وفجأة… رفع صوته بحيث يسمعه كل من في القاعة:
_ يا جماعة… أنا الدكتور الجديد… اسمي عمر الحديدي الدكتور اللي اسمه مكتوب في الجدول دا… ومش بسْمَح لأي طالب يدخل بعدي.
تجمّدت هي في مكانها، واتسعت عيناها صدمةً… الدكتور؟! أنت؟!
التفت إليها يكمل:
_ قوليلي… اسمك إيه يا بشمهندسة؟
بصوت مرتعش:
_ أنا اسمي … أنا تسنيم… والله ما كنت أعرف إن حضرتك الدكتور و .......
قاطعها بابتسامة جانبية تحمل وعيدًا:
_ اطلّعي برا يا بشمهندسة.
ثم أضاف بصوت منخفض لا يسمعه إلا هي:
_ ذاكري كويس… عشان أيامنا مع بعض هتبقى لطيفة قوي.
«لم تكن الحكاية تبحث عن نهاية، بل كانت تُراكم النار في صدور أصحابها… نارٌ تختبئ خلف صمتٍ ثقيل، ونارٌ أخرى تتغذّى على الجرح القديم. وفي مكانٍ ما، كان القدر يشحذ حدوده، مستعدًا ليوجّه ضربة لا ينجو منها أحد. فهناك من نهض ليُقاتل خوفه، وهناك من عاد ليُقاتل العالم كلّه… وبينهما مرايا لا تعكس الحقيقة، تُضلّل الخطى وتكشف ما حاولوا دفنه. وهناك ستشتعل المعركة التي لا تعرف الرحمة، حين يقف الماضي في وجه من ظنّ أنهم نَجوا منه.»
