رواية عاشق قهر النساء الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم صباح عبد الله فتحي


 رواية عاشق قهر النساء الفصل الخامس والعشرون 

كان نيل جالسًا على مقعد بلاستيك صغير أمام غرفة العمليات، ينظر إلى كفّيه الملطّختين بدمائها. دموعه تنهمر على خديه بصمت، وصورتها وهي مُلقاة على الأسفلت والدماء تُغرقها لا تفارق عقله.. تمتم لنفسه بصوت مبحوح بالبكاء: إنتي إزاي قدرتي تعملي فيّا كده؟ إزاي حوّلْتيني لإنسان ضعيف بالشكل ده...

لفت انتباهه صوت خطوات عشق وهو يسرع إليه.. وقف عشق أمامه، وضع يده على كتفه برفق وهو يهتف بقلق قائلًا: نيل، طمّني حصل إيه؟ وفين نيلي؟ وإزاي ده حصل؟

شهق نيل بالبكاء وهو يلف ذراعيه حول خصر عشق:
مش عارف يا عشق، مش عارف.. لو حصل حاجة لنيلي أنا ممكن أموت، صدقني أنا ما كنتش متخيّل إني بحبها قوي كده.

تجمّد عشق للحظات متعجبًا من تصرّف نيل الغير متوقع، فالأول مرة يراه بهذا الضعف، ولكن عندما استمع إلى آخر حديثه تبسّم وهو يربت على ظهره بحنان وهو يقول: عارف إنك بتحبها، ما تقلقش هتكون كويسة، نيلي قوية ما يتخافش عليها...

شعر عشق بالغرابة لعدم سماع صوت تلك الحمقاء لحد الآن، تلفّت حوله باستغراب بحثًا عنها، عقد حاجبيه باستغراب عندما لم يجدها، وهتف قائلًا: غريبة… هي راحت فين دي؟

ابتعد نيل عنه، رفع يده يمسح دموعه عن خديه وهو يقول باستغراب: هي مين دي؟ مش فاهم.

أجاب عشق بقلق ممزوج بالدهشة: شوق كانت معايا ومش عارف راحت فين؟

مدّ عشق يده في جيبه وأخرج محفظته النقدية وناول نيل فيزته بحركة سريعة متوترة وهو يقول:امسك يا نيل الفيزة دي خليها معاك، وأنا هروح أشوف المجنونة دي فين، مش هتأخر عليك، ولو حصل حاجة كلّمني، ماشي.

لم ينتظر حتى يجيبه نيل، وعاد أدراجه مهرولًا يبحث عنها، والخوف والقلق يتربصان به، وهو يأنّب نفسه بعنف خوفًا أن يكون أصابها مكروه وهو بجانبه ولم يشعر بها: إزاي تختفي بالشكل ده وما خدش بالي؟
---------

في إحدى غرف المستشفى وقفت شوق، واتّسعت عيناها في دهشة وذهول وهي تنظر لوالدها كما تظن، الذي كانت تظنه ميتًا. خرج صوتها مهزوزًا قائلة: إنت.. إنت.. إزاي لسه عايش؟ أنا شوفتك بعيني وإنت بتتدفن إنت وماما.

تغلغلت عينا سامح بالدموع وهو يقول: كان لازم أموت يا شوق، كان لازم أموت علشان أحميكي إنتي وإخواتك، وكنت مفكّر بموتي بحميكم، بس لما عرفت اللي حصل لكم كان لازم أرجع تاني.

انهمرت دموعها وهي تقول: إحنا خلاص عرفنا كل حاجة، عرفنا إن إحنا مش بناتكم... إنت خطفتني من أهلي وأنا صغيرة، أنا بنت قاسم مش كده؟

أجابها بحزن: لا يا شوق، إنتوا بناتي، كل اللي عرفتوه كذب في كذب، صدقيني...

صمت فجأة عندما استمع إلى صوت عشق من خارج الغرفة، نظر خلفه ليراه من خلال فتح صغيرة في باب الغرفة، يقف مع إحدى الممرضات يسألها إذا كانت رأت شوق: لو سمحتي، ما شفتيش البنت اللي كانت معايا من شوية؟

نظرت شوق نحو الباب عند سماع صوته، تحركت لتخرج وكانت ستنادي عليه، لكن أوقفتها يد سامح تقبض على فمها، وهو يشير لها أن تصمت وهو يقول بصوت منخفض: اسكتي يا غبية، إنتي ما تعرفيش حاجة. عشق مش لازم يعرف إني عايش، ولا إنتي ولا إخواتك تفضلوا مع الناس دي. تعالي معايا، أنا عارف فين لين،  هاخدك لها، وما تقلقيش على نيلي، أنا هجيبها وهأخدكم ونسافر تاني.

صمتت شوق واستسلمت إليه عندما استمعت إلى اسم لين، رغم الريبة والخوف اللذين تشعر بهما تجاه ذلك الشخص الذي كان لها يومًا حاجز الأمن والأمان، وهي لا تعرف لماذا تشعر بهذا الخوف، ولماذا لم تشعر بالفرحة والبهجة لرؤيته حيًا ولم يمت كما كانت تظن..

أما هو، فعندما رآها ساكنة بين يديه عرف أنها اقتنعت بما قال، فارتسمت على شفتيه ابتسامة مريبة، وظل صامتًا حتى غادر عشق، ثم سحبها من يدها وتوجّه ليغادر بها وهو يقول بخفوت: أمشي معايا من غير صوت، اتفقنا.
---------

عادت ياري مسرعة إلى القصر، هرولت إلى الطابق الثاني، متوجهة إلى جناح عشق، ودون سابق إنذار فتحت الباب ودلفت مسرعة، لتتسع عيناها بصدمة لما رأته. رفعت يديها على فمها لتكتم صوت صرختها التي بالكاد تخرج منها، وانهمرت دموعها برعب وحزن شديد، وهي تنظر إلى مرام المستلقية فوق الأرض، أسفلها بقعة دماء، وصغيرها جالس يبكي بجانبها، وأحد الخدم يقف يرتجف من الخوف. وعندما رأى ياري هرول إليها وهو يقول بخوف وذعر: أنا آسف، أقسم بالله ما كانش قصدي تموت، أنا جيت أنفذ اللي حضرتك طلبتيه، بس كانت هتقتلني، واللي حصل كان دفاع عن النفس، صدقيني.

صفعته ياري بقوة وهي تقول بغضب وخفوت: غبي متخلف، طلبت منك تخوفها وتخليها تهرب من القصر، مش تقتلها.

انحنى رأسه بخوف وهو يقول: ما هو ده اللي كنت هعمله، بس كانت هتقتلني، ومن غير قصد ضربتها بالفازة على راسها وماتت.

نظرت ياري إلى بطن مرام المنتفخ وإلى طفلها الصغير، وانهارت فوق الأرض وهي تتمتم بحسرة: أنا آسفة أوي، والله ما كانش قصدي تموتي بالشكل ده.

وفجأة لاحظت ياري يد مرام تتحرك ببطء شديد، نهضت مسرعة وهي تمسح دموعها قائلة بفرحة: دي لسه عايشة، ما ماتتش يا غبي.

أسرعت إلى مرام التي كانت تستعيد وعيها، جلست بجانبها ورفعت رأسها من فوق الأرض التي جفت الدماء عليها، وضعته على قدمها وهي تقول ببكاء شديد: أنا آسفة أوي، بالله عليكي سامحيني، ما كانش قصدي أذيكي بالشكل ده.

فتحت مرام عينيها بضعف وهي تقول بألم شديد: إنتي مين؟

أجابتها بحزن: مش مهم أنا مين، الأهم دلوقتي آخدك المستشفى وما تموتيش علشان خاطري.

أضاف الخادم بخوف قائلاً: إنتي بتقولي إيه؟ لو فضلت عايشة أكيد هتقول كل حاجة للأستاذ عشق، وهيقتلنا إحنا الاتنين.

نظرت مرام بخوف وضعف إلى ياري وهي تقول برجاء: مش هقول له حاجة، بس أبوس إيدك سبيني عايشة، عيالي مالهمش غيري.

نظرت ياري إليها بحيرة وخوف وهي تقول ببكاء شديد: أنا آسفة، بس إنتي لو فضلتي عايشة أكيد عشق هيعرف كل حاجة ومش هيسامحني.

مسكت مرام يديها برجاء، ثم وضعتها على بطنها حيث يتحرك جنينها بداخلها، وهي تقول بضعف شديد: أنا حامل، وشكلي بولد. ابني اللي في بطني مالوش ذنب في حاجة، وأنا حتى ما أعرفش إنتي منين ولا عايزة تقتليني ليه. أنا ما أذيتكيش في حاجة، وعيالي محتاجيني.

ابتسمت ياري ودموعها تنهمر على خديها وهي تشعر بحركة الجنين داخل بطن مرام. ولم تشعر علي ذلك الخادم الذي حمل في يديه مزهرية واقترب بحذر لينهي حياة مرام.

صرخت ياري برعب، ومرام عانقت طفلها الصغير بخوف عندما رأت الخادم يقف رافعًا الفازة عليها، وصوت رصاص يتصاعد من خلفهم، والدماء تخرج من منتصف رأس الخادم، ولم تمر لحظة حتى سقط على الأرض وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.

التفتت ياري وهي ترتجف بذعرها لتجد جورج واقفًا على عتبة الغرفة رافعًا سلاحه، ثم أخفضه سريعًا وأسرع إلى مرام ليحملها من فوق الأرض وهو يقول بقلق: مدام مرام، ما تقلقيش، أنا موجود معاكي، ما حدش هيقدر يأذيكي، وهاخدك على المستشفى حالاً.

تبسمت مرام بضعف قبل أن تفقد وعيها من جديد. أخذها جورج وغادر مسرعًا لإسعافها، بينما حملت ياري طفل مرام الذي كان يبكي بشدة، وأخذته وهرولت خلف جورج وهي تبكي بخوف مما سوف يحل بها عندما يعرف عشق ما فعلته، وندمًا على ما حدث لمرام وحياتها التي على وشك أن تفقدها بسبب شيء لم يكن لها ذنب به.
----------

في سيارة الإسعاف التي كانت تنقل جثمان جلال إلى المقابر بعد ما استلمه كلٌّ من حازم وقاسم. رفض قاسم أن يستقل سيارة حازم، واستقل مع ولده، جالسًا صامتًا وهو ينظر إلى جثمان جلال المغطى بقماشة بيضاء، وعقله تائه في ذكريات الماضي التي لا تزال تنبض بالألم بداخله...

(ذكريات قاسم / قبل ثلاثين عامًا)

في مكتب جلال، وقف قاسم أمام جلال الذي كان ينظر إلى الملف وابتسامة عريضة تزين وجهه وهو يقول ببهجة: برافو عليك يا قاسم، ابن أبوك فعلًا.

أجاب قاسم بحزن: أنا عملت لك اللي إنت عاوزه، بس أتمنى ما تأذيش سيف وتسدد الديون اللي عليه علشان ما يتحبسش.

تبسّم جلال بسخرية وهو يقول: إنت ذكي أوي يا قاسم، بس عيبك الوحيد إنك طيب زيادة. بس سيف مش طيب زيك، ولما يعرف اللي إنت عملته ده مش هيسكت، وزي ما قال المثل اتغدى بصحبك قبل ما يتعشى بيك.

اتسعت عينا قاسم بدهشة وهو يقول بقلق شديد: قصدك إيه؟ مش فاهم.

تبسّم جلال بخبث وهو يقول:خمس دقايق تليفونك هيرن وهتفهم كل حاجة.

انتفض قاسم بذعر على صوت رنين هاتفه، نظر إلى جلال بذهول، وبيد مرتجفة أخرج هاتفه، ليأتي صوت مجهول عبر الهاتف قائلًا: أستاذ قاسم، الأستاذ سيف عمل حادث وتوفّي هو والمدام نبيلة مراته، البقاء لله وحده.

انهمرت دموع قاسم على خديه وهو ينظر إلى جلال الذي ابتسم بخبث وهو يناوله منديلًا قائلًا: البقاء لله وحده، ربنا يرحمه ويغفر له يا رب العالمين، والزمن بينسي، ومع الوقت كل حاجة هتتنسى، ما تقلقش.

اغلق قاسم عينيه بغضب شديد ودموعه تنهمر بلا توقف ثم نهض وغادر المكتب غاضبً. 

-------

دخل قاسم إلى المستشفى وهو يحاول التحكم في نفسه ودموعه المنهمرة على خديه، وتوجّه إلى حضّانة الأطفال ليسأل عن طفل سيف. وقف أمام جليسة الأطفال وهو يقول بحزن شديد: لو سمحتي، فين ابن سيف الطفل المولود امبارح؟

نظرت إليه باستغراب وهي تقول: أي واحد؟ في أطفال كتير اتولدوا امبارح.

أخرج قاسم هاتفه وبحث عن صورة لسيف وزوجته، ورفع الهاتف بحزن أمام المرأة وهو يقول:
الست اللي في الصورة دي فين ابنها؟

تنهدت المرأة بهدوء وهي تقول: ابن المدام نبيلة؟ هي فعلًا ولدت امبارح، بس الطفل عنده الصفرا وشارب ميّة في الولادة، ومش هينفع يطلع من الحضانة دلوقتي. بس مين حضرتك؟

أجاب قاسم بحزن: أنا عمه، وأنا اللي هستلمه. أبوه وأمه عملوا حادث وتوفّوا، وأنا هتكفّل بيه.

تنهدت المرأة بحزن وهي تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأتوب إليه، البقاء لله وحده. تمام يا حضرتك، بس الطفل ده لسه ما تسجّلش، وكنا مستنيين أبوه ييجي يسجّله.

أجابها بهدوء: إيه المطلوب، وأنا هسجّله باسمي.

----------وبعد 9 اشهر 

في مكتب جلال كان يقف حازم وقاسم، وجلال يصرخ في وجههم بغضب: يعني إيه الهانم أختكم كانت حامل وأنا ما أعرفش؟ وحامل إزاي من غير جواز؟

أجاب قاسم بهدوء: أظن اللي حصل حصل، وهي ولادة وخلاص.

جلال بغضب جامح: هو إيه اللي ولادة وخلاص هصرفها فين دي؟ إنتوا عارفين إن قراءة فاتحة الهانم على ابن سعد، وأنا داخل معاه صفقة كبيرة، ومش هسمح للجوازة دي تفشل مهما حصل، إنتوا فاهمين؟

حازم باستغراب: طيب وإحنا نعمل إيه دلوقتي؟

صمت جلال للحظات يفكر، قبل أن يقول: اعملوا لها عملية ولا أي حاجة، المهم ترجع بنت، ومش عاوز مخلوق يعرف اللي حصل ده، إنتوا فاهمين؟

أجاب قاسم بحزن: طيب، والطفل هنعمل إيه فيه؟

أجاب جلال بغضب: اقتلوه ولا حطّوه في أي مصيبة، المهم عندي الهانم ترجع بنت تاني.

نظر حازم وقاسم إلى بعضهما بحيرة واستغراب. تنهد قاسم بحزن قبل أن يقول: تمام، ما تقلقش، أنا هتصرف في الطفل. عن إذنكم.

ترك قاسم المكتب وغادر، وظل جلال يتابعه بنظرة بشك حتى اختفى عن الأنظار، ثم نظر إلى حازم قائلًا: عاوزك تعرفلي أخوك هيعمل إيه من غير ما يحس، مفهوم؟

أجاب حازم بهدوء: مفهوم.

خارج المكتب كان يقف قاسم يستمع إلى ما قاله جلال، تنهد بحزن وتحرك ليكمل طريقه.
---------

في المساء، في شقة نادر… قبل ثلاثين عامًا. كان نادر مجرد موظف في شركة الجوكر. كانت زوجته عاقر، لكنها كان يحبها كثيرًا ولم يتخلَّ عنها، وكان قريبًا من قاسم جدًا وكان يثق به.

كان نادر يجلس يعمل على جهاز اللابتوب، أتت زوجته وهي تحمل فنجانًا من القهوة، وضعته على الطاولة وهي تقول بهدوء: اتفضل القهوة يا نادر.

نظر لها نادر بحب وهو يقول: تسلم إيدك يا حبيبتي.

تصاعد صوت رنين الجرس، نظر نادر وحبيبه لبعضهما باستغراب، وقال نادر: غريبة، مين اللي هيزورنا في الوقت ده؟

أجابت حبيبة بقلق: مش عارفة، هروح أشوف مين.

وقف نادر ووضع الجهاز على الطاولة وهو يقول: لا، خليكِ إنتِ، أنا هفتح.

توجه نادر لفتح الباب ليجد قاسم يحمل رضيعًا في يديه. نظر له نادر باستغراب وهو يقول: قاسم، خير؟ في حاجة؟ وابن مين اللي معاك ده؟

نظر له قاسم برجاء وهو يقول: خده واعتبره ابنك، أنا مش هقدر أثق في حد غيرك.

أجاب نادر بدهشة: هو ابن مين ده؟ وخده أعمل إيه بيه؟ مش فاهم.

--------الحاضر…

استفاق قاسم من ذكرياته على صوت باب السيارة يُفتح، واثنين من رجال الإسعاف يسحبون جثمان جلال من السيارة. نظر له بحزن وتوجه ليغادر خلف جثمان والده، ليجد حازم واقفًا مع عدد من الرجال الذين سيعملون على دفن جلال، وقراء القرآن يًرتل بعد الآيات القرآنية. توجه ووقف بجانب حازم، الذي قال بهدوء: قاسم، بما إن عشق دلوقتي عارف الحقيقة، أنا في رأيي ننفذ وصية بابا في أقرب وقت ممكن.

نظر له قاسم باستغراب قائلًا: قصدك إيه؟ مش فاهم.

نظر له بتعجب حازم وتنهد بهدوء قبل أن يقول: الوصية هتتنفذ زي ما بابا كان عاوز. نيل هيتجوز شوق بنتك، وليل هيتجوز ياري بنتي، وعشق مش هيورث زي الباقي.

ضحك قاسم فجأة، فنظر له حازم والجميع باستغراب، وهتف حازم متعجبًا قائلًا: قاسم، حصل لك إيه؟ إنت كويس؟

أجاب قاسم من بين صوت ضحكاته قائلًا: أصلًا ضحكتني، أقسم بالله. عشق مش هيورث إيه؟ وبعدين هيورثنا إزاي وإحنا شغالين عنده؟

تعليقات