رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثلاثون
ما إن دوّى صوت جاكي في أذنَي دينا حتى خارت عزيمتها فجأة كأن آخر خيطٍ من صلابتها قد انقطع… وفي لحظة انكسارٍ مصطنعة هوَت على ركبتيها أمام سيرين بينما كانت كوثر تراقب المشهد بعينين متّسعتين من الدهشة.
قالت دينا بصوتٍ متردد:
«سيرين… أنا آسفة.»
أصاب الذهول سيرين؛ إذ لم تتوقع قطّ أن ترى خصمتها القديمة على هذا النحو.
أما كوثر فكان أول ما تبادر إلى ذهنها أن دينا تخطّط لشيءٍ ما:
«دينا ما الذي تحاولين فعله هذه المرة؟»
لكن دينا تجاهلتها تمامًا وانحنت أكثر حتى لامس جبينها الأرض في ارتطامٍ بدا مقصودًا ثم قالت بصوتٍ مختنق:
«كنتُ مخطئة… ما كان ينبغي أن أدّعي إنقاذ السيدة شادية وطارق بدلًا منكِ، ولا أن أضعك في مرمى الاستهداف… أعتذر… وأرجو أن تسامحيني.»
وقفت سيرين صامتة… لوهلة لم تستطع أن تفهم ما الذي دفع دينا إلى هذا السلوك فبحسب معرفتها الطويلة بها لم تكن دينا لتنحني لشخصٍ مهما كان إلا إذا وصلت إلى درجة لا تُحتمل من اليأس.
كانت دينا لا تزال منكفئة على الأرض لكن الاحمرار في عينيها لم يكن من ندم صادق؛ بل من غضبٍ مكبوت وغيرةٍ طاغية.
كيف تُجبر على الاعتذار لسيرين؟!
وهي التي كانت تأمل في يومٍ ما أن تجعل سيرين هي التي تركع عند قدميها!
تقدمت سيرين ببطء ونبرة صوتها حادّة وصلبة:
«أياً كان سبب اعتذاركِ فلن أسامحكِ… ويمكنكِ المغادرة الآن.»
لم تكن سيرين تريد لزكريّا الموجود في المنزل بأن يشهد مشهداً كهذا أو أن يرى انحناءً مذلولًا لا يليق بأيّ إنسان حتى ولو كان إدعاءً.
ما إن انتهت كلمات سيرين الحاسمة، حتى نهضت دينا سريعًا كأن الأرض تلفظها وغادرت الشقّة على مضضٍ ظاهر.
قالت كوثر وهي تحدّق في الباب المغلق بدهشة:
«أهكذا تمضي؟ أبدأت صفحة جديدة حقًّا؟»
هزّت سيرين رأسها بثبات:
«أبدًا. أستطيع أن أرى أنها لم تعتذر بصدق.»
ردّت كوثر:
«وأنا كذلك… لا أفهم ما الذي تخفيه.»
—
في الخارج كانت دينا تقف عند بوابة المبنى قبضتاها مشدودتان حتى ابيضّت مفاصلها. تقدمت بخطوات حادّة نحو سيارة “بنتلي” سوداء تنتظر عند الرصيف ومن ثم همست بنبرة ممتلئة بالحنق:
«هل كان هذا كافيًا؟»
هبط زجاج النافذة ببطء ليظهر وجه جاكي الصارم، وبنبرة باردة قالت:
«رغم أنكِ فعلتِ ذلك على كره فقد أتممتِ المهمة التي كلفك بها السيد ظافر… سأرفع تقريرًا صادقًا عمّا جرى.»
ثم أشارت للسائق بالتحرك لكن دينا مدّت يدها لتمنع السيارة من الانطلاق.
«لم أرَكِ من قبل… لماذا تعملين مع ظافر؟ وأين ماهر؟»
لم تهتزّ ملامح جاكي بل ارتسمت ابتسامة باهتة عند زاوية شفتيها، ابتسامة تحمل شيئًا من السخرية:
«هذا وحده يثبت أنك لستِ قريبة من السيد ظافر… وإلا لعرفتِ من أكون.»
وقفت دينا في مكانها عاجزة عن الرد متخبّطة بين الشك والارتباك… وبعد لحظة انطلقت سيارة البنتلي مسرعة تاركة خلفها سحابة من الضيق والحيرة.
—
من داخل السيارة كانت جاكي تحدّق عبر مرآة الرؤية الخلفية تراقب تعبير دينا الممتقع ثم غابت في أفكارها.
ما الذي يدفع جاسر—الرجل الذي لم يتورّط يومًا في مشكلة من أجل أحد—إلى الوقوف بجانب سيرين تحديدًا؟
أيّ سرّ خفي يجعل هذا الرجل الحذر يغامر لأجلها؟
عادت السكينة إلى منزل كوثر بعد مغادرة دينا لكن سيرين كانت قد اتخذت قرارها ونهضت تستعد للخروج عازمة على التحدّث مع سارة وتامر لكن ما إن رأت كوثر ذلك حتى قامت فورًا وقالت:
«سأذهب معك.»
وانضم إليهما صوتٌ ثالث صغير لكنه حازم:
«أمي… أريد أن آتي أيضًا.»
كان زكريّا ينظر إلى سيرين بعينين قلقتين.
هزّت سيرين رأسها برفق:
«لا داعي، يمكنني الذهاب وحدي.»
فهي كانت قد تواصلت مع سارة في الليلة الماضية وهي تعرف تمامًا أين ستجدهما.
لكن كوثر قاطعتها بقلقٍ واضح:
«وماذا لو آذوكِ؟»
ابتسمت سيرين بثقة هادئة:
«لا تقلقي… سأطلب من رامي أن يرافقني فقط للاحتياط.»
عندها تذكّرت سيرين كلمات كارم يوم أن أخبرها هي وكوثر بأن رامي قادر على مواجهة عشرة رجال وحده حتى ولو كان أعزل.
تنفّست كوثر الصعداء:
«حسنًا إذن… المهم أن تكوني حذرة.»
ثم جذبت زكريّا جانبًا وهمست له كوثر قائلة:
«زاك، لديك مدرسة غدًا. ابقَ في البيت اليوم… الجو بارد للغاية في الخارج.»
فأجاب مطيعًا:
«حسنًا.»
لكن موافقته لم تمنع شرارة العزم التي كانت تلمع في عينيه؛ فقد اتخذ قراره مسبقًا بأن يتسلّل لاحقًا فوجود رامي مع سيرين لم يبدّد قلقه عليها.
—
غادرت سيرين وبرفقتها رامي الذي قاد السيارة بهدوء حتى وصلا إلى القصر الذي يقيم فيه سارة وتامر… وما إن توقفت السيارة أمام البوابة العريضة حتى رفعت سيرين نظرها إلى ذلك البناء الفخم، كأنّه يطلّ من علٍ على كل ما حوله.
شعرت بدهشة خفيفة تتسلّل إلى صدرها فمن مستوى هذا القصر وحده أدركت أن سارة وتامر يعيشان في رغد بعيد تمامًا عن الادعاءات التي اعتادا بثّها… وأنهما بلا شك لا يعرفان معنى الضيق المالي.
