رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والواحد والثلاثون
بعد دقائق قليلة فتحت مدبّرة المنزل في قصر يانديل الباب وما إن وقع بصرها على ثياب سيرين البسيطة حتى ومض في عينيها بريق ازدراء خافت ومن ثم سألت بنبرة جامدة:
«سيدة تهامي، أليس كذلك؟»
أومأت سيرين بثبات.
«نعم، جئت لأرى السيدة سارة وتامر.»
فتحت المدبّرة المجال لها بالدخول وسارت أمامها عبر ممرات القصر الهادئة وفي طريقهما إلى غرفة المعيشة قالت بلهجة رسمية:
«السيدة سارة خرجت لتناول الشاي أمّا السيد تامر فهو في المنزل.»
ترددت الألقاب في ذهن سيرين… *السيدة سارة*، *السيد تامر*… كان واضحًا أنّ حياتهما في السنوات الماضية قد انزلقت إلى مستوى آخر تمامًا؛ رفاهية صامتة تتكلم من دون الحاجة إلى كلمات.
وعندما دخلت غرفة المعيشة وجدته هناك… كان تامر يجلس بثقة يرتدي بدلة فاخرة مفصّلة بعناية وفي معصمه ساعة *باتيك فيليب* يساوي ثمنها ثروة كاملة حتى أزرار أكمامه الصغيرة، تلك التفاصيل المهملة عند عامة الناس كانت تساوي مئات الآلاف.
بدا أمامها كأنه صفحة جديدة من حياة لم تعد تعرفها وحين التقت عيناها ما يدور الآن شعرت بأن الفارق بين الأمس واليوم أوسع مما ظنّت.
ما إن خطت سيرين داخل الغرفة حتى وقع بصرها على تامر واقفًا أمام لوحة فنية عالمية الشهرة يتأمّلها لا بدافع تقدير الفن بل كمن يقيّم بضاعة في سوق… كانت أصابعه تمرّ على إطارها بفضولٍ خالٍ من أي فهم لجوهرها ثم التفت إلى الرجل الذي سلّمها له وسأله بلهجة مباشرة:
«كم ثمن هذه اللوحة؟»
أجاب الرجل بإطراء واضح:
«اشتراها رئيسي بمليار دولار يا سيدي.»
رفع تامر حاجبيه وكأن الرقم لم يُحدث في داخله أي دهشة، ثم قال ببرود:
«مليار؟ حسنًا… سأقبلها… أخبر رئيسك أنني سأهتم بفائض مخزونه أيضًا.»
انحنى الرجل موافقًا ثم انسحب بخطوات محسوبة بعد أن تلقى ردّ تامر.
أمسك تامر اللوحة بإحدى يديه دون محاولة لاستيعاب قيمتها الحقيقية ثم مررها بخفة نحو مدبّرة المنزل قائلاً بنبرة لا تخلو من الغطرسة:
«ضعيها في غرفة الكنز الخاصة بي.»
وخلال كل ذلك… لم يلتفت إليها… لم يمنح سيرين نظرة واحدة وكأن وجودها لم يتجاوز ظلًا مرّ في أطراف المشهد.
لم تُبدِ سيرين أي اعتراض فكل ذلك البذخ الذي يحيط بتامر كان كافيًا ليذكّرها بمدى أهمية الوصية التي تحملها.
كان رامي واقفًا خارج غرفة المعيشة كحارس ثابت وحين وصلت سيرين كانت مدبّرة المنزل قد أسرعت لإبلاغ تامر بقدومها فالتفت إليها أخيرًا، ونظرة ساخرة ترتسم على وجهه ومن ثم اقترب منها بخطوات واثقة يقول بصوت يقطر استهزاءً:
«أأنتِ حقًّا على وشك الطلاق من ظافر بسبب هذا الرجل الواقف إلى جانبك؟»
كانت قضية الطلاق قد أصبحت حديث العالم، ومن الطبيعي أن يطّلع عليها تامر… مثل سارة تمامًا كان تامر ينظر إلى سيرين باعتبارها فتاة متهوّرة تتخلى بسهولة عن مظلة آل نصران النافذة… افكيف لامرأة مثلها أن تتجرأ على قطع ذلك الحبل الذهبي؟
لم تُجبه سيرين بل قالت بلهجة ثابتة لا ارتجاف فيها:
«اسحب الدعوى فورًا.»
شعر تامر بشيء من الدهشة… إذ لم يرها بهذه الصلابة منذ اللحظة التي حاولت فيها الانتحار وإنهاء حياتها… ضحك تامر بسخرية خفيفة وقال:
«ولِمَ أفعل ذلك؟»
لم تُطالبه بكلمة أخرى بل مدّت يدها وقدّمت له الورقة التي أخفتها طيلة الوقت.
«هذه وصية والدي… كتبها من وراء ظهرك ومن وراء السيدة سارة.»
تجمّد تامر للحظة وكأن الكلمات اصطدمت بحاجز صلد… أخذ الوصية منها بتردد أخفاه ببراعة وفتحها تحت ضوء الغرفة ومع كل سطر يقرأه كانت عيناه تتسع أكثر.
لقد وضع والدهما خطة أخرى… خطة لا تتضمنه هو ولا سارة… ك. ن ينوي أن يورّث جميع أعماله لسيرين وحدها.
وبما أن الوصية تحمل توقيع الأب وختمه الرسمي وبصمته الشخصية— فبهذا كانت دليل قاطع لا يقبل نقضًا ولا تأويلًا.
اندفع الغضب في عروق تامر كشرارة أصابت برميل بارود ثم مزّق ما بيده بعنف فتطايرت القصاصات في الهواء كريشٍ مبعثر وهو يصرخ بجنون:
«هذا مستحيل! كيف يُعقل أن يترك أبي كل أعماله لفتاةٍ صمّاء مثلك؟!»
لم ترتجف سيرين بل ردّت ببرود أشدّ من إهانته:
«هذه نسخة فقط… كما يمكنني طباعة عشرات النسخ ليكون لديك ما يكفي للغضب.»
قالتها وهي تخرج من حقيبتها رزمة أوراق، نسخًا أخرى من الوصية وألقتها أمامه على الطاولة في ضربة تحدٍّ صريحة.
كان تامر أذكى من أن يمزّق المزيد… لكنه كان أسرع غضبًا من أن يتحكم في نفسه فانفجرت ملامحه غضبًا وعلى الفور اندفع نحوها، وقبضته تطبق على عنقها بقسوة.
«يا لكِ من حقيرة!» هدر بصوت مبحوح.
لم يكن هذا جديدًا على سيرين؛ فمنذ عودتها إلى منزل عائلة تهامي وهي صغيرة لم يُعاملها تامر يومًا كأخته فلطالما غذّت سارة قلبه بسمومها: *سيرين عاجزة، صمّاء، لا تستحق مكانها بينهم.*
كبر وهو يرى نفسه المنتصر دائمًا عليها، يضرب، يشتم، ولا يجد من يوقفه… وهكذا نَمَت داخله تلك الطبيعة العنيفة التي تحكمها القوة وحدها.
ومع ضغط أصابعه على حنجرتها، تنفّست سيرين بصعوبة وقالت بصوت يكاد يتلاشى:
«بدأتُ أشعر بالندم الآن…»
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مُنتشية بالنصر.
«من الجيد أنكِ ندمتِ… كنت أستطيع قتلك ضربًا حين كنا صغارًا… والآن أستطيع فعلها دون تردد.»
لكنها تابعت وكلماتها تخرج متقطعة:
«أنا نادمة… لأنني لم أُسلّم الوصية إلى القضاء في وقتٍ أبكر.»
تجمّد وجهه لثانية—ثم تجلّى الغضب في عينيه كعاصفة وهو يرفع يده ليصفعها، صفعة كانت ستسقطها أرضًا… لكن اللحظة انفجرت بقوة خاطفة ففي طرفة عين انقلب جسده في الهواء!
ويدٌ قوية أمسكت به من الخلف، ثم
ركلة هائلة اندفع تامر على إثرها كدمية قشّ، يطير خارج غرفة المعيشة وارتطم بالأرض بقوة بينما انبثقت الدماء من فمه كخطٍ داكن يسيل على ذقنه بينما وقف رامي مكانه، أنفاسه ثابتة، وعيناه متّقدتان بحمايةٍ لم يعتدها هذا المكان.
أما تامر فكان يحدّق فيهما مدهوشًا… مذهولًا… والألم ينخـ،ـر عظامه.
