رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثاني والثلاثون 332 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثاني والثلاثون 


فركت سيرين رقبتها المتألمة وهي تهمّ بالخروج من الغرفة بينما كان تامر يتلوّى على الأرض عاجزًا عن النهوض والألم يشقّ صدره… صريخ بصوت ممزوج بالغضب والمهانة:

«سيرين أيتها العاهرة… كيف تجرؤين على إحضار رجل ليضربني؟! ألا تدركين من أكون الآن؟! سأقتلك سيرين… »

اكتفت سيرين بأن رمقت رامي بنظرة قصيرة لم تدم أكثر من نبضة لكنها كانت إشارة كافية… وفي لحظة خاطفة هوت قدم رامي اليمنى على صدر تامر مرة أخرى بركلة حادة جعلت الهواء يفرّ من رئتيه.

«اسحب ما قلته.» قال رامي وصوته بارد كحدّ السيف.

حاول تامر بكل ما بقي فيه من قوة أن يمسك ساق رامي ويدفعها بعيدًا، لكن مقاومته خانته، ويداه ارتجفتا فهتف متوسلًا، غاضبًا، محطمًا:

«حسنًا… حسنًا! سأفعل!»

ومع ذلك لم يزح رامي قدمه عن صدره… كانت مدبرات المنزل تقفن على مقربة، والشماتة تتراقص في أعينهنّ فمشهد صاحب القصر تحت قدم غريب ليس أمرًا يُرى كل يوم… كانوا كمن قيّدت أرجلهن؛ لم يجرؤن على التدخل أو حتى الاقتراب.

اشتدّ الألم على تامر وارتعشت قبضتاه وامتلأت عيناه بالدموع.

«ساسو… لقد كنتُ مخطئًا! أوقفيه… سأموت!»

لم تنادِ سيرين منه بهذا الاسم منذ زمن بعيد، لكنه—في لحظة ضعفه—عاد إلى اللقب الوحيد الذي كان ينطقه حين يُهزم:

«ساسو… ساسو، أرجوكِ…»

تجمّدت قدماها والذكرى تضربها كصفعة وصور الطفولة تتوالى:

تامر الأصغر سنًّا كان يهاجمها كلما تمكن، وهي تدافع عن نفسها بقلب طفلة فكان يبكي بعد أن يُهزم… يصرخ:

«ساسو! ساسو، أنا آسف!».

لكن ذلك الندم لم يدم فقد كانت سارة دائمًا تتدخل… لا لتهدئتهما بل لتقسو عليها… تذكرت ذلك اليوم البعيد… اليوم الذي أمسكت فيه سارة مزهرية ثقيلة وهوت بها على رأسها… تذكّرت الدم الذي غطّى وجهها وكيف بدا العالم حينها أحمر بالكامل… بعد ذلك اليوم لم تجرؤ سيرين على المقاومة… كان الخوف قد استوطنها ولم يكن أمامها إلا تقبّل الضرب بصمت.

عادت سيرين إلى الحاضر… أخذت نفسًا قصيرًا، ثم قالت بصوت مستقرّ:

«هيا بنا، رامي.»

انحنى رامي قليلا وجاء صوته مطيع وواثق:

«على الرحب.»

بينما كانت سيرين تسير مع رامي عبر ممرات القصر الواسع لم يخطر ببالهما أنّ خلف الأشجار الوارفة في الخارج كانت سيارة مايباخ سوداء ساكنة كظلّ يراقب بصمت. محركها مطفأ… لكن ذهن من بداخلها كان مشتعل بالترقب.

بعد تتبّع موقع هاتف سيرين أرسل ظافر رجاله فورًا للتحقق وما إن علم أن سارة تقيم في هذا القصر حتى أمر بولوج أحد رجاله إلى الداخل سراً لمراقبة الوضع عن قرب.

جاء اتصال الحارس الشخصي لظافر سريعًا وصوته مضطرب يكاد يلتهم أنفاسه:

«سيدي… السيد تامر حاول خنق السيدة سيرين… ثم تعرّض للضرب على يد الرجل المرافق لها حتى تقيّأ دمًا.»

استمع ظافر بصمت. لا كلمة… لا تنهيدة.

كان السكون أثقل من الغضب ذاته.

تجرأ ماهر مساعده على التعليق وصوته يمزج بين الاحتقار والضيق:

«تامر تهامي رجل حقير… فلولا السيدة سيرين لكان اليوم يتسوّل الرحمة… ما ناله الآن لا يساوي ذرة مما يستحقه.»

ظافر لم يعلّق لكن عينيه أظلمتا… كان يعلم… يعلم الكثير عن تاريخ هذين الاثنين.

قبل خمس سنوات فقط كان تامر وسارة قد خططا لبيع سيرين لرجل عجوز يقترب من الثمانين… رجل مريض، ذو نفوذ، اشتهر بسوء سمعته… رفضت سيرين بكل قوتها، بكل ما تبقى لها من كرامة.

وحين خاف الاثنان من انتقام ذلك العجوز… هربا إلى الخارج تاركَينها لقدر مظلم ولولا تدخل ظافر حينها—ولولا أنه واجه ذلك العريس العجوز بجرأة لا يملكها غيره—لما استطاع تامر وسارة العودة إلى البلاد ولا أن يعيشا اليوم في هذا البذخ.

قال ظافر فجأة بصوت منخفض لكن يحمل قوة آمرة:

«أخبرني المزيد…»

لم تكن ذكرياته مكتملة.

كانت صورًا مبعثرة… قصاصات من روايات الآخرين… ظلالًا من أحداث لم يتذكرها.

كان يحاول في كل مرة جمع اللغز الذي يخصّ سيرين… لكن كان ينقصه الكثير.

بدأ ماهر يسرد القصة بإيجاز شديد بينما كانت ملامح ظافر تزداد صلابةً كأن كل كلمة تصلح جزءًا ناقصًا في الصورة التي ظلّت غامضة طويلًا.

لم يكد ماهر يُتمّ سرد ما لديه حتى التفت فجأة نحو الباب الخلفي للقصر وقد اتّسعت عيناه بدهشة حادّة وهو يشير بيده وهتف:

«إنه نوح!»

لقد خُيّل إليه أن الطفل الواقف هناك هو نوح بعينه.

التفت ظافر إليه بنبرة متوجسة:

«من؟»

أجاب ماهر بسرعة وصوته يميل إلى الحماسة:

«ابن السيدة سيرين… وكارم!»

ضاق صدر ظافر كأن الخبر ضرب وترًا دفينًا بداخله ثم قال بلهجة لا تحتمل التأخير:

«أحضروه إليّ.»

«حالاً يا سيدي!»

أصدر ماهر أوامره للحراس فانطلقوا جهة الفتى الصغير.

كان زكريّا قد تسلل خارج القصر بعدما ذهبت كوثر لإحضار طرد له محاولًا أن يجد منفذًا للدخول دون أن يلاحظه أحد لكن قبل أن يتقدّم خطوة أخرى التفّت ذراعان قويتان حول خصره ورفعاه عن الأرض بخفة القنّاص.

ركل الفتى الهواء بعنف وقدماه الصغيرتان تتخبطان دون أثر فيما صاح غاضبًا:

«من أنت؟! أنزلني فورًا!»

لم يتعرف زكريا على الرجل لكن نبرة الصغير المفعمة بالجرأة—تلك النبرة المألوفة التي تحمل ذات حدّة ظافر—فاجأت الحارس الشخصي وجعلته يتردد لحظة.

تقدّم ماهر من الظلّ برونق نظارته الذهبية التي انعكس عليها ضوء الحديقة وقال بصوتٍ هادئ كأنه يعلن اكتشافًا ثمينًا:

«لم نرك منذ زمن يا نوح كارم…»

كان جازمًا بأنه لم يخطئ هذه المرة…

لقد وجد “نوح” أخيرًا.


تعليقات