رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثالث والثلاثون
تردد الاسم في أذن زكريّا كأنه صادر من عالمٍ آخر:
**نوح كارم؟**
سادته الحيرة للحظة ثم بدأت خيوط الفهم تتشابك في ذهنه… لقد خلطوا بينه وبين شقيقه الأصغر… هذا وحده ما يفسّر الأمر… أمّا اسم العائلة فقد افترض زكريا أنّ نوح — بعقله الطفولي — ربّما استخدم اسم كارم ليبدو أكثر قوة أو ليخدع الآخرين.
حدّق زكريّا في ماهر وقد تذكّر ملامحه على الفور… فهذا الرجل أحد تابعي ظافر، ورجال ظافر — في نظره — لم يكونوا يومًا أهل صلاح بل شركاء في كل ما لحق بسيرين من أذى وخوف.
سأل زكريا بصوتٍ هادئ لا يخلو من التحدّي:
«ولماذا تمسك بي؟»
تأمّله ماهر بدهشة… كان “نوح” في الماضي يبكي لأقل سبب، ينهار قبل أن يُمسّ حتى؛ لكن الطفل الذي يقف أمامه الآن بدا أكثر صلابةً، أكثر قدرة على مواجهة العيون دون هلع… ومع ذلك تجاهل ماهر تساؤلاته وتبدّلاته… ومدّ يده وأخذ زكريّا بنفسه من الحارس وقال بنبرة رسمية خالية من الدفء:
«السيد ظافر يريد رؤيتك.»
ما إن بلغ مسامع زكريّا أنّ ظافرًا يطلب رؤيته حتى خمدت مقاومته كجمرةٍ انطفأت فجأة وترك ماهرًا يرفعه نحو السيارة دون اعتراض فقد كان الفضول ينهش صدره؛ ما الذي جاء بظافر إلى خارج أسوار قصر يانديل؟ وكيف غادر مقاطعة سان؟ وهل كان يتعقّب سيرين؟ تسلّل الرعب إلى قلب زكريا كخيطٍ بارد، فوجود ظافر وحده يكفي ليقلب الطمأنينة خوفًا.
يا لشرّ هذا الرجل!
يا لقسوته التي لا تهدأ!
اندفعت نسمة باردة إلى مقصورة السيارة حين فُتح الباب فدخل معها صمت ثقيل كان يجلس فيه ظافر ينتظر… لم يكن طافر قادرًا على رؤيته، لكن وقع الأصوات جعله يدرك قربه.
قال ماهر بصوت ثابت:
«سيدي ظافر، لقد أحضرته.»
جلس زكريّا داخل السيارة وحدّق مطولًا في ملامح ظافر الساكنة يتساءل في نفسه: *هل حقًا فقد بصره؟ أم أنّه يتظاهر؟* راوده خاطر غامض باختباره فجرّب بصوت مرتجف لكنه متماسك:
«لِمَ أحضرتني إلى هنا؟ هل تنوي استخدامي لتهديد أمي مرة أخرى؟»
لم يتلقَّ ردًا من ظافر بل سمعه يأمر ماهرًا ببرودٍ قاطع:
«أعده إلى مقاطعة سان.»
فور سماعه ذلك انفجر زكريّا بالاحتجاج:
«لن أعود إلى مقاطعة سان! دعوني أذهب!»
كان يدرك أنّ عودته هناك ستضع سيرين في شَرَكٍ لا تستطيع الخلاص منه؛ فهي لم تُخْبره يومًا بحقيقة علاقتها بظافر فكيف ستفسّرها إن اضطر للعودة؟
شعر زكريا بأن عيني ظافر الداكنتين تستقرّان عليه رغم ظلامهما ثم سمع صوته يهبط ثقيلًا:
«هذا ليس قرارك… وإن رفضت فسأقتلك الآن.»
سكت زكريّا فورًا فالهيبة التي تشعّ من ظافر كانت كافية لتكميم أي كلمة… فحتى مع عمًى محتمل وفقدان ذاكرة سيظلّ ظافر رجلًا يشبه الخطر في هيئته ووجوده.
جمع زكريّا بقايا شجاعته ورفع رأسه متحديًا وقال بلهجة باردة تخفي خوفًا يشتعل داخله:
«كل ما تستطيع فعله هو تهديد طفل… لكن عندما أكبر سأقتلك بنفسي.»
وقف ماهر خارج السيارة مذهولًا من جرأة الصغير فالتقطه سريعًا وأبعده وكأنما يخشى أن يشتعل المكان بكلمة أخرى… ولم يستطع ماهر وهو ينظر إلى زكريّا المرتجف والغاضب في آن إلا أن يلحظ شيئًا واضحًا… ذلك الطفل يشبه ظافر إلى حدٍّ مربك؛ لا في الملامح فحسب بل في نبرة التحدي وفي تلك الشرارة الخامدة التي تتّقد حين يهدّد وكأنما يتبادلان ظلًّا واحدًا وإن لم يدرك أحدهما بعد.
تجاهل ماهر تلك الخواطر التي طافت بباله، وهزّ رأسه كمن يطرد فكرة غير مرغوبة قبل أن يستقلّ سيارة أخرى… فما الحاجة للتساؤل؟ فهو نفسه الذي أجرى فحص الحمض النووي وهو الذي رأى النتيجة الواضحة: الصبي لا يمتّ لظافر بصلة.
وعندما عاد ماهر إلى سيارة المايباخ خلف عجلة القيادة وجد ظافر جالسًا بملامح جامدة لا تكشف شيئًا كأنّ وجهه مرآة صامتة لا تعكس إلا الغموض… وبعد برهة بدأ الناس بالخروج من القصر وتقدّم أحد الحرّاس ليقول:
«سيدي… السيدة سيرين والسيد رامي غادرا منذ قليل.»
……….
عند بوابة قصر يانديل كان تامر يتمايل من الألم لكن عينيه كانتا تلمعان بنارٍ جديدة… لم يكن ذاك الطفل الذي ينهار تحت الضرب بل شخصًا صَقَلَه الخوف حتى لم يعد يخشاه إلا إذا جاء من يدٍ أعلى سلطةً و نفوذًا.
صرخ تامر وهو يترنّح بين أذرع من يساعدونه:
«أرسلوا التسجيل للشرطة! سأقتل هذين الشخصين بيدي!»
ورغم رعشة صوته كان فيه شيء من تصميمٍ مُفاجئ فبالنسبة لتامر كان رامي مجرمًا عاديًا، رجلًا يمكن هزيمته إذا كثر الرجال واشتدّ العزم… كان يؤمن أن اليوم الذي سينتصر فيه سيأتي إن طال الزمن أو قصر.
وبينما يشتعل الغضب في صدره انزلقت سيارة مايباخ إلى جواره بهدوء مريب وانخفضت النافذة، فبان وجه ظافر الصارم، كأنه منحوت من حجر.
سأل بصوتٍ منخفض لكنه نافذ:
«من الذي تنوي قتله؟»
تجمّد تامر في مكانه وجحظت عيناه كمن رأى شبحًا ومن ثم تمتم مرتبكًا:
«سيد ظافر… كنت أمزح فقط.»
لم يبدُ على ظافر أنه أخذ كلامه على محمل الجد بل ردّ ببرود قاتل:
«إن سبّبتَ لسيرين أقلّ إزعاج… فسأطعم رأسك للكلاب.»
لم يكن تهديدًا عابرًا بل كان وعدًا خرج من رجلٍ لا يعرف التراجع ولا يمزح حين يتكلّم.
