رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والرابع والثلاثون 334 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والرابع والثلاثون 


ارتجفت ساقا تامر ارتجافًا أفقده توازنه وكاد يخرّ راكعًا من شدة الخوف وصوته يتقطع وهو يقول:

«سيد ظافر… أرجوك لا تغضب… كيف يمكنني إيذاء أختي؟ سأُسقط الدعوى حالًا… الآن في هذه اللحظة.»

لم يستطع التقاط أنفاسه إلا حين ابتعدت سيارة ظافر عن بوابة القصر كأن الهواء عاد إلى صدره بعد انقطاع… تلاشى غروره وانطفأت شجاعته الزائفة وأدرك أن الثمانية مليارات التي ظنها في متناول يده أصبحت حلمًا بعيدًا… مستحيلًا تقريبًا.

وللآن لم يصدق أن ظافر الذي كان يُظهر كراهية لسيرين عاد فجأة ليضع نفسه سدًّا في وجه أي أذى يطالها.

عندما وصلت سارة ورأت ابنها يكاد يتداعى من الضرب ثار غضبها وصرخت:

«كيف تجرأت على معاملتك هكذا؟ أي قلب لدى تلك الوقحة»

أجابها تامر وهو يضغط على مكان الألم:

«لم تكن هي… من فعلها أحد حراسها الشخصيين.»

كانت سارة تهمّ بالرد لكن كلماته التالية أغلقت فمها:

«ظافر تدخل بنفسه… علينا إسقاط الدعوى فورًا.»

ساد الصمت وتبدلت ملامح سارة وهي تهمس باستغراب يشوبه قلق:

«ما كنت لأتخيل… أن ظافر ما زال يعتبرها زوجته.»

على الجانب الآخر وفي طريق العودة أخذ هاتف سيرين يرنّ… كان ماثيو على الخط وصوته يشي بالأخبار التي كانت تنتظرها:

«سارة وتامر… سحبا الدعوى.»

أغمضت سيرين عينيها بعمق وكأن ثقلًا كان جاثمًا على صدرها قد انزاح أخيرًا… شعرت براحةٍ دافئة تتسلل إلى قلبها رويدًا رويدًا.

في تلك اللحظات نفسها كانت كوثر تجوب المكان كمن فقدت ظلّها تبحث عن زكريّا بقلقٍ آكلٍ للقلب… لم يخطر ببالها طرفة عين أن ظافر هو من أخذه… أغمضت عينيها وهي تهمس في ضيق:

«زاك… أين اختفيت؟»

وفجأةً انبثق من ذاكرتها مشهد الصغير وهو يقول لها إنه يريد اللحاق بسيرين لرؤية سارة. انتفضت واقفة واتجهت مسرعة نحو القصر يكاد قلبها يسبق خطواتها.

لكن ما إن وصلت إلى فناء القصر حتى خيّم الفراغ عليها؛ لا أثر لزكريّا… حملت صورته وطرقت أبواب الجيران واحدًا تلو الآخر غير أن الجميع هزّ رأسه بالنفي… شعرَت بالعجز يتسلل إليها ولم تجسر على إبلاغ سيرين قبل أن تتأكد من كل شيء.

وفي مكانٍ آخر كان ماهر قد أعاد زكريّا إلى مقاطعة سان.. . أما ظافر فقد ابقاهم في السيارة وتقدم يتحسس طريقه بصمتٍ جليدي.

نظر ماهر إلى الصغير بتردد ثم سأله بصوتٍ خافت بعدما خشي أن يكون قد أنهكه الطريق:

«أتريد شيئًا لتأكله؟»

رفع زكريّا ذقنه بعناد طفولي ممزوج بكرامة لافتة وقال بلهجة متعالية رغم قرقرة معدته التي فضحته:

«لستُ جائعًا.»

لم تُفوّت أذن ماهر تلك العلامة فأشار لرجاله بإحضار طعام… وبعد دقائق تكدست صنوفه داخل السيارة ومع ذلك لم يُلقِ زكريّا نظرة واحدة عليها؛ بل اكتفى بأن أغمض عينيه واتكأ على المقعد كأن العالم كله لا يعنيه.

فتح ماهر علبة الفطائر الصغيرة فانطلقت رائحتها الدافئة تعبق المكان وتداعب الهواء داخل السيارة ومن ثم التفت إلى زكريّا وهو يرفع قطعة منها قائلًا بنبرة هادئة:

«أمتأكد أنك لا تريد الأكل؟»

شمّ زكريّا الرائحة التي تكاد تُغري صبر رجلٍ يافع لكنّه تماسَك ورفع حاجبه في كبرياء مُصطنع:

«همف… أنا لا آكل في السيارة أبدًا.»

تأمله ماهر لحظةً طويلة؛ ذلك العناد، تلك النبرة المتعالية، النظرة التي تُخفي غطرسة تحت طبقات من الصلابة… كل هذا ذكّره بشخصٍ واحد:

ظافر نفسه.

قطع زكريّا الصمت، وقد نفد صبره:

«ومتى ستتركوني؟ هل ستُبقونني في هذه السيارة إلى الأبد؟»

أجاب ماهر وهو يعيد غلق علبة الفطائر:

«السيد ظافر يرتّب كل شيء انتظر حتى يحين الوقت.»

ثم توقّف لحظة وكأن فكرةً ما طرأت على ذهنه وأضاف بصوتٍ أكثر جفافًا:

«ولا أعرف متى سيعود… وإن لم تأكل الآن… فلا تبكِ لاحقًا عندما يجوع بطنك.»

سخر زكريّا بينه وبين نفسه. أيعقل أن يظنّ خادمُ أبيه اللقيط أنّه طفل في الثالثة؟ هو لا يبكي… أو هكذا أقنع نفسه.

لكن الوقت يمضي والجوع لا يُجامل أحدًا ومع كل دقيقة كان صوت معدته يعلو بينما تصطفّ الوجبات الخفيفة أمامه كأنها تُغريه عمدًا.

سأله ماهر مرة ثالثة بصبرٍ بدأ ينفد:

«أما زلت لا تريد أن تأكل؟»

ابتلع زكريّا ريقه جاهدًا محاولًا الحفاظ على كبريائه:

«أريد أن آكل في الخارج… لا هنا.»

وافق ماهر على الفور فهو لم يُرِد للطفل أن يجوع… فزكريّا ابن سيرين التي بات ظافر مولعًا بها على نحوٍ لا يخفى؛ ولا شك أنّ ظافر سيُقدّر كل ما يمسّها أو يمسّ من تُحب.

حلّ الليل وعاد ظافر بخطواتٍ ثابتة نحو السيارة يفتح الباب وقال بصوتٍ لا يقبل نقاشًا:

«هيا… حان وقت العودة إلى المنزل.»

منزل؟ تجمّد زكريّا لحظة غير متأكد ممّا يعنيه.

مدّ ظافر يده القوية وانتشله من المقعد دفعةً واحدة فشعر زكريّا وكأنه يُرفع عن الأرض ويُحلّق.

«توقفوا أيها الحمقى! أنزلوني!» صرخ بغضبٍ مذعور.

ردّ ظافر ببرودٍ نافذ:

«تأدّب.» ثم نقره على مؤخرته نقرة خفيفة أشبه بتأديب طفل مدلل.

وأضاف بنبرة لا تخلو من الجدية:

«من الآن فصاعدًا… أنا زوجُ أمّك.»


تعليقات