رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والخامس والثلاثون
تجمد دم زكريّا في عروقه فقد كانت هذه المرة الأولى التي يجرؤ فيها أحد على صفع مؤخرته فصرخ غاضبًا:
«يا أحمق! سأقتلك!»
واستمر في تهديداته المدوية طوال الطريق نحو المنزل كأن صوته يحاول مقاومة شعوره بالعجز.
وعندما وصلوا كانت سيرين قد علمت من كوثر باختفاء ابنها فصُدمت حينما رأت ظافر يحمله بين يديه ككتكوت صغير بينما كان زكريّا يصرخ:
«سأقتلك!»
تجمّدت سيرين للحظة لكن سرعان ما استعادت رباطة جأشها وانتزعت زكريّا من بين يدي ظافر.
لطالما كان زكريّا طفلًا لطيفًا لم يهدد أحدًا ولم يطلق أي كلمات عنف عندما يكون برفقة أمه… وحالما تذكرت سيرين كيف احتجز ظافر نوح أسيرًا من قبل أحست بوجع قلبها فاحتضنت زكريّا بقوة وسألته بعينين تلمعان بالقلق:
«ظافر… ماذا فعلت لابني؟»
هدأ زكريّا تدريجيًا في حضنها، واقترب منها بشكل غريزي يبحث عن الأمان… وقبل أن يفتح ظافر فمه ليشرح بدأ زكريّا بالشكوى:
«عندما ذهبت كوثر اليوم لاستلام الطرد اختطفني هذا الرجل الشرير وقال إنه يريد أن يكون زوج أمي!»
ارتجف قلب سيرين بشدة عند سماع كلماته.
لم ينكر ظافر ما قاله بل أكّد بنبرة هادئة وراسخة:
«سيرين… أعلم أنه ابنك وابن كارم لذا أعدته إليك… ومن الآن فصاعدًا سنعيش معًا.»
ثم التفت ظافر إلى زكريّا وقال بجدية لا تُخفيها ملامحه الصارمة:
«نوح… إن لم تُرِد قبول الأمر فبإمكانك قتلي حين تكبر وتستطيع… أما الآن فوالدتك هي زوجتي وبالتالي أنا زوج أمك قانونيًا.»
تجمّدت سيرين للحظة، وأدركت على الفور أن ظافر أخطأ في اعتبار زكريّا نوحًا فسرعان ما غطّت فم الطفل برفق وقالت له:
«كارم يستطيع الاعتناء بنوح… أنت لا تريد ذلك، أليس كذلك؟»
ابتسم ظافر ثم كرر كلامه وكأنه يبرّر لنفسه:
«نحن بحاجة إليه لنعيش معًا… أليس من حق الطفل أن يهتم به أبوه؟ لكن كارم ليس أهلاً لذلك» وأضاف وهو يروي كيف وجد زكريّا وحيدًا في الشارع:
«هل هكذا الأب يعتني بولده؟»
تألّقت عيون زكريّا بمزيجٍ من الحيرة والمشاعر المعقدة وهو لا يزال بين ذراعي سيرين وفمه مغطى بصمتٍ يشي بعدم الفهم الكامل لما يدور حوله.
تساءل زكريا في صمت: عن أي حق يتحدث ظافر؟ هو الذي تخلى عن زوجته وأولاده، والآن يُلقي محاضرات عن تربية الأطفال.
أما سيرين فشعور بالاختناق اجتاحها إذ لم تتوقع أن يكون زكريّا وحيدًا في الشارع ورغم ذكائه وحسن سلوكه لم يُغيّر ذلك حقيقة أنه طفل صغير في الرابعة من عمره يحتاج إلى رعاية وحماية… ولعدم قدرتها على مجابهة كلمات ظافر المنطقية والمغلوطة في آنٍ واحد أخذت سيرين زكريّا برفق وأدخلته إلى الغرفة لتمنحه الأمان والطمأنينة.
ما إن دخلا غرفة النوم حتى اندفع زكريّا إلى سيرين واعتذر على الفور بصوتٍ مرتعش:
«أمي… أنا آسف… إنه خطأي… كانت كوثر قد انشغلت أثناء النزول إلى الطابق السفلي لأخذ الطرد لكنني غافلتها وخرجت… أردت رؤيتكِ.»
لم يستطع زكريا أن يجعل كوثر تتحمل اللوم وحدها رغم أن الموقف لم يكن خطئها… رأت سيرين في ابنها هذا النضج المبكر فاحتضنته بقوة وكأنها تعوّضه عن كل لحظة غياب:
«زاك… أنا من يجب أن أعتذر… لم أعتنِ بك كما ينبغي.»
كانت كوثر دائمًا مضطرة لموازنة مهام عملها المزدحمة مع رعاية زكريّا مما جعل المسؤولية تقع على عاتقها أحيانًا لكن سيرين طمأنتها على الفور: زكريّا آمن، وقد وجده ظافر، وسيبقى معي في الوقت الراهن.
استند زكريّا برقة على كتف أمه وعيناه تلمعان بقلق مما سيصرح به:
«أمي… إنه والدي، أليس كذلك؟»
انقبضت حدقتا سيرين وكأن قلبها قد توقف لوهلة ومن ثم قالت بصوتٍ مرتعش:
«زاك… كيف عرفت؟»
عرفت أن الوقت قد حان لكشف الحقيقة فالسرّ مهما طُوّل كتمه غالبًا ما يتم اكتشافه عاجلًا أم آجلًا.
تنفّس زكريّا بعمق وأجاب بصراحةٍ صادمة:
«أعرف منذ زمن أنه والدي… وجدت قصاصات الصحف التي تحمل صوره في درج غرفة نومك.»
شهقت سيرين بصوت خافت:
«أنا آسفة… كنتُ أريد الانتظار حتى تكبرا أنت ونوح لأخبركما… أنا آسفة جدًا…»
ضمّت قبضتيها على صدرها والدموع تتلألأ في عينيها:
«لقد كنت أنانية جدًا… خشيت أن يأخذكما مني… أنا آسفة جدًا.»
في تلك اللحظة شعرت سيرين كما لو عادت طفلةً عاجزة تبحث عن الحماية والطمأنينة في حضن صغيرها بينما كان قلبها يفيض بالندم والحب معًا.
