رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والسابع والثلاثون 337 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والسابع والثلاثون 


خلال تلك الساعات التي أمضاها إلى جانب الطفل راحت ذاكرة ظافر تتقشّع طبقةً بعد أخرى كضوءٍ يتسلل عبر ضبابٍ ثقيل… تذكّر نفسه وهو صغير منكفئ على شاشة الحاسوب، يحفظ الأكواد كما يحفظ الأطفال الحكايات… كانت البرمجة جزءًا من تكوينه لا مهارةً فحسب.

وحين انتهى زكريّا من إعادة كتابة الكود مدّ ظافر يده ليتفحّصه وما إن تلمس الأسطر الأولى حتى تملّكه ذهول صامت؛ الكود نظيف، مُحكم، لا خطأ فيه… كأن يدًا خبيرة صاغته لا أصابع طفل لم يتجاوز الرابعة.

أما زكريّا فلم يدرك أثر ما صنعه على ظافر لكن ملامحه كانت تفيض غرورًا طفوليًا صريحًا فابتسم ابتسامة المنتصر وقال بثقةٍ ساخرة:

«سأكون أفضل منك عندما أصل إلى عمرك.»

لم يتأثر ظافر بل ردّ بنبرة هادئة تحمل شيئًا من التحدّي:

«سنرى.»

ومع هذا الرد لمع في ذهن زكريّا بريق فكرةٍ جريئة لا تخلو من الخبث فتقدّم خطوة وهو يضع يديه على خصره وقال:

«إذا خسرتَ عليك أن تترك أمي… ما رأيك؟»

رفع ظافر حاجبيه قليلًا مستطلعًا حدود هذا العقل الصغير:

«وماذا لو فزتُ؟»

أجاب زكريّا بثباتٍ لا يملكه كثير من الرجال:

«إذا فزت… سأسمح لك بالبقاء.»

ضحك ظافر ضحكة قصيرة بدا فيها مزيج من الدهشة والتسلية:

«هذا رهان غير منصف لي… حتى لو رفضتُ المنافسة سأبقى هنا على أي حال.»

تجمّد زكريّا للحظة مذهولًا من سرعة بديهة هذا الرجل الأعمى ثم تمتم بإصرار:

«إذًا… ماذا تريد أنت من الرهان؟»

لم يتصور قط أنّ الفوز على ظافر—برغم عمى عينيه—ليس بتلك السهولة التي رسمها في رأسه الصغير.

اقترح ظافر بنبرةٍ تحمل مزيجًا من الجدية والدهاء:

«إذا فزتُ… فعليك أن تناديني *أبي*.»

تجمّد زكريّا في مكانه وكأن الكلمة ارتطمت به ارتطامًا إذ لم يخطر له يومًا أن يخرج هذا اللقب من فمه موجَّهًا إلى الرجل الذي يسميه في سرّه بـ«أبوه اللقيط» فبقي صامتًا لحظة، حدقتاه متّسعتان يحاول ابتلاع الفكرة قبل أن تلفظه.

ولمّا رأى ظافر تردده ابتسم ابتسامة ساخرة وقال:

«أهذا خوف؟ تخشى أن تناديني *أبي*؟ يبدو أنك جبان أكثر مما ظننت.»

اشتعَل زكريّا عندها غيظًا ونفخ خديه الصغيرين بنفَسٍ حاد:

«لستُ خائفًا! هيا بنا.»

ثم اعتدل أمام لوحة المفاتيح وكأنه يتجه إلى ساحة معركة.

في تلك اللحظة خرجت سيرين من الغرفة بعد أن أنهت ترتيبها… وما إن دخلت غرفة المعيشة حتى رأت المشهد الغريب:

ظافر وزكريّا يجلسان جنبًا إلى جنب أمام الحاسوب منحنِيَين على لوحة المفاتيح كأنهما فريق واحد أو خصمان يتبادلان الهجمات الرقمية… امتزجت دهشتها بقلقٍ هادئ… كيف أصبحا قريبين هكذا في ساعات معدودة؟

نادته بخفوتٍ لتصحيح نفسها في اللحظة الأخيرة:

«زا.. نوح… حان وقت الاستحمام.»

كانت على وشك أن تناديه بـ«زاك» لكنها تراجعت… ليس لأنها أرادت الكذب بل لأن الظرف ازداد تعقيدًا وصار أقل ما تحتاجه أن يفهم ظافر الحقيقة قبل أوانها… حتماً هو سيغادر حين تعود ذاكرته وسيستقيم كل شيء بعد ذلك أو هكذا حاولت أن تقنع نفسها.

أجابها زكريّا دون أن يرفع عينيه عن الشاشة:

«أمي سأستحم لاحقًا… عليك أن ترتاحي أولًا.»

تنهدت سيرين وقد اعتادت صلابته وثقته المفرطة بنفسه رغم صغر سنّه.

«حسنًا… كما تريد.»

فمنذ أن كان زكريا في الثالثة لم يحتج إلى أحد في مثل هذه التفاصيل الصغيرة… كان طفلًا لا يشبه الأطفال البتّة.

بعد ساعة كاملة من الصمت المشحون والتحديق المتوتر في الشاشات اخترق ظافر حاسوب زكريّا المحمول بضربة أخيرة حاسمة فتراجع زكريّا إلى الخلف وسقط على الأريكة كما لو أنّ أحدهم انتزع منه أنفاسه وعيناه معلّقتان في الفراغ خاليتان من أي بريق.

بهدوءٍ لا يخلو من انتصار قال ظافر:

«لقد فزت.»

وفي اللحظة نفسها التي اكتملت فيها استعادة ذاكرته تدفق كل شيء إلى ذهنه دفعة واحدة. تذكّر مهاراته، ماضيه، وخطاياه… وتذكّر أيضًا شيئًا لا يقل وقعًا: أن منافسه العنيد هو هذا الطفل الجالس أمامه، هو ذاته الذي سرق منه أكثر من سبعة مليارات دولار دون أن يرفّ له جفن.

انحنى زكريّا برأسه وكأن الكلمات ثقيلة جدًا ليُخرجها وتمتم بصوتٍ بالكاد يُسمَع:

«…أبي.»

رفع ظافر حاجبه متظاهرًا بعدم السماع:

«ماذا قلت؟ لم أسمعك.»

لم يجد زكريّا مفرًا فشدّ قبضتيه ورفع صوته بكل ما بقي لديه من كرامة طفولية:

«أبي!»

عندها فقط نهض ظافر وخفّف من حدّة ملامحه ثم مدّ يده وربّت على رأسه بحنانٍ لم يظهره لأحد من قبل قائلاً بخفوت:

«يا ولدي…»

في صباح اليوم التالي بدت علامات الإحباط جليّة على وجه زكريّا، حتى إنّ سيرين شعرت بثقلٍ غريب يسكن الصغير فحاولت أن تستدرجه للسؤال قائلةً برفق:

«زاك… ما الذي يزعجك؟»

لكنه ردّ بحدّة تخفي اضطرابه الداخلي:

«أمي، كفّي عن السؤال… فقط أوصليني إلى المدرسة.»

أومأت سيرين بخفوت.

«حسنًا.»

قادته في طريق طويل نحو الروضة البعيدة بينما كان التثاؤب يتملّكه كمن قضى الليل أرقًا.

كان الصباح ينساب ببطء من خلف زجاج السيارة وصوت أنفاسه الصغيرة يشي بنومٍ متقطع.

سألت سيرين مرة أخرى وقد أثقلها القلق:

«زاك… هل يشغل بالك أمر والدك؟»

ارتبك زكريّا؛ فما إن سمِع كلمة *والدك* حتى تذكّر خسارته في تحدّيه مع ظافر وتذكّر الكلمة التي نطقها على مضض: *أبي*… بدا لها وقد تلبّسه الخوف من ذلك الرجل الذي صورته له شيطانًا متنكرًا بملامح بشرية.

وقبل أن تتعمّق في أسئلتها قطع هو الطريق عليها سريعًا حين اقتربت السيارة من الروضة:

«أمي، سأصل متأخرًا! توقّفي عن الحديث أرجوكِ.»

لم تجد سيرين بُدًّا من الصمت… تراقبه وهو يعبر البوابة الصغيرة بخطى أسرع من المعتاد كأنه يهرب من سؤالٍ قبل أن يهرع إلى موعد.

وما إن دخل الفناء حتى اندفع إليه مالك ودارين بسعادة غامرة.

قال مالك باندهاش:

«زاك، لِمَ وصلتَ في هذا الوقت؟ ظننا أنك لن تأتي اليوم!»

وأضاف دارين وهو يقترب أكثر:

«ألم نتّفق أن نبحث معًا عن رجل وسيم؟ كيف نسيت ذلك؟»

كان اتفاقهم السابق ألا يدعوا ليونارد يستمتع بزفافه هادئًا بل أن يظل زكريّا متظاهراً بأنه ابن كوثر ليبحثوا لها —في مشهد طفولي انتقامي— عن رجل يفوق العريس وسامة.

توقّف زكريّا للحظة؛ نصفه ما يزال يعيش مرارة هزيمته أمام ظافر ونصفه الآخر يتذكّر ما وعد به كوثر وما اتفق عليه هو وأصدقاءه من مؤامرات صغيرة.

ومع ذلك رفع رأسه قليلا… واستعاد تماسكه… فالخطة قائمة وما زال في جُعبته الكثير.


تعليقات