رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثامن والثلاثون
كان زكريّا يجول ببصره على مواقع التواصل الاجتماعي عبر شاشة هاتفه بحثًا عن ليونارد؛ ذاك الرجل الذي اجتمعت فيه الوسامة والحنكة، محامٍ بارع يجذب الأنظار أينما مضى ورجلٌ لا يختلف اثنان على تميّزه.
كانت كوثر قد اختارت لزكريّا روضة أطفال راقية يقصدها أبناء العائلات الثرية وأصحاب المكانة… غير أنّ أمرًا واحدًا أفسد خطته الصغيرة:
معظم آباء الأطفال المترددين على الروضة كانوا متزوجين وبذلك خرجوا من دائرة “المرشحين” كما تخيّلها في ذهنه الصغير.
التفت زكريّا إلى مالك يسأله بجدّية طفولية:
**”مالك، هل يوجد شُبّان أغنياء وسيمين في عائلتك؟”**
رفع مالك رأسه بفخر وابتسامة واسعة تشي بالاعداد قال:
**”لن تجد في عائلتنا إلا رجالًا أثرياء ووسيمين.”**
وقبل أن يردّ زكريّا تدخّل دارين قائلًا بثقة لا تقلّ عن صديقه:
**”زاك، أظن أنّ والدك وسيمٌ للغاية.”**
اتسعت عينا زكريّا دهشة وأعاد السؤال كمن يسمع أمرًا غريبًا:
**”والدي؟!”**
أجاب دارين بنبرة يقين طفولي:
**”نعم… الرجل الذي كان يتحدّث إلى المدير.”**
هنا أسرع مالك يهزّ رأسه نافياً:
**”هذا غير صحيح… ذلك الرجل هو السيّد طارق وليس والد زاك… اسم عائلته مختلف تمامًا عن اسم عائلة زكريّا ولا يمكن لرجلين مختلفي الاسم أن يكونا أبًا وابنه.”**
حكّ دارين رأسه بتردّد ثم قال كما لو أنه يسترجع معلومة أكيدة:
**”لكن جدي أخبرني أنّ السيّد طارق سيتزوج العمة كوثر يومًا ما.”**
ثم أكمل بثقة طفل يظن أنه حلّ اللغز كله:
**”وإذا كانت كوثر أمّ زاك… فهذا يعني أن السيد طارق سيكون والده!”**
بدأ مالك يميل إلى تصديق منطق دارين وكأن كلامه قد وجد لنفسه موطئًا من الحقيقة في ذهنه الصغير. وبينما كان النقاش بينهما يتأجّج كشرارة لا تهدأ، تذكر زكريا عندما مرّ بجوارهما ذاك اليوم واقترح بنبرة عقلانية هادئة أن يخصّصوا بعض الوقت للبحث عن **رجل** يصلح أن يكون شريكًا لكوثر.
ومنذ تلك اللحظة بات الصبيان ينتظران وصول زكريّا إلى الروضة بلهفة غير معهودة وتذرّعا أمام المعلّمة بأن لديهما دروسًا خصوصية فحصلا على إجازة زائفة ولم يتبقَّ سوى حضور زكريّا ليبدأ مخططهم الطفولي.
قال زكريّا وهو يهرول نحو خزانته:
**”تأخرتُ قليلًا بسبب أمرٍ ما الليلة الماضية… سأذهب للتحدّث مع المعلّمين ثم يمكننا الانطلاق.”**
وضع حقيبته جانبًا واتجه نحو المعلم ليخبره بأنه سيشارك في أولمبياد الرياضيات ذلك اليوم. وبعد دقائق قليلة كان الثلاثة قد غادروا الروضة معًا وحقائبهم تتأرجح على ظهورهم.
تثاءب دارين وهو يمسح دموع النوم من عينيه، وقال:
**”بالمناسبة… أين سنجد رجلًا وسيمًا؟”**
صفع مالك صدره بثقة طفل يظن أنه يملك مفاتيح العالم:
**”أعرف تمامًا أين نجدهم… فقط تعالوا إلى النادي… أبي وأصدقاؤه يرتادونه دائمًا… بل إنني أحضرت بطاقة عضوية أبي الذهبية.”**
ثم أخرج البطاقة الذهبية من حقيبته كمن يعرض كنزًا ثمينًا.
هزّ زكريّا رأسه موافقًا وقد وجد أن الفكرة قد تمنحهم فرصة حقيقية للعثور على رجال يرافقون كوثر.
**”فلنذهب.”**
وصل الأولاد الثلاثة إلى بوابة النادي وكانت الشمس ما تزال معلّقة في كبد السماء تُلقي بوهجها على الأبواب المغلقة بعناد… توقّفوا أمامها للحظة فتنهّد مالك بإحباط واضح وتمتم:
**”أوليس النادي مفتوحًا في هذا الوقت من النهار؟”**
لم يكن في وسعهم القدوم ليلًا فذلك كفيل بأن يوقعهم في ورطة مع الحرس أو ذويهم ولذلك كان النهار خيارهم الوحيد.
التفت زكريّا إلى مالك وقال بنبرة عملية:
**”أرِهم بطاقة عضويتك الذهبية يا مالك.”**
هزّ مالك رأسه بعزمٍ وتقدّم نحو الحارس عند البوابة ومن ثم رفع البطاقة أمامه وقال بثقة طفولية:
**”جئنا لنستمتع قليلًا.”**
كان الحارس على وشك صرفهم بصرامة غير أنّ لمعان البطاقة الذهبية في يد مالك جمّد كلمات الحارس في حلقه بل وشحب وجهه قليلًا فاقترب ليتأكّد:
بطاقة كبار الشخصيات… في يد طفل؟!
تساءل الحارس في نفسه بدهشة حقيقية: كيف حصل هذا الصغير على بطاقة لا يمنحها النادي إلا لقلّة من رعاته الأثرياء وأصحاب النفوذ؟!
وبينما ظلّ يحملق في البطاقة بإجلال أدرك أنّ هؤلاء الصبية ليسوا زوّارًا عاديين على الإطلاق.
كان مالك المنتفخ فخرًا يوشك أن يصرّح للحارس بأن البطاقة تخصّ والده غير أنّ زكريّا نحى صديقه جانباً قبل أن يتفوه بأي حماقة قد تقلب الوضع رأساً على عقب وتقدّم خطوة واحدة مثبتاً نظره على الحارس وقال بحدّة قاطعة:
**”كفّ عن هذا العبث… دعْنا نعبر وإلا ستفقد عملك.”**
تبدّلت ملامح الحارس فور سماعه هذه النبرة الواثقة… وألقى نظرة متفحّصة على الصبية الثلاثة: ثياب أنيقة، مظهر مرتب، وجرأة لا تصدر إلا عن أبناء عائلات رفيعة… وللحظةٍ خاطفة ترسّخ في ذهنه أنّ زكريّا ابن أحد كبار أصحاب النادي فتنحّى جانبًا وفتح لهم البوابة دون أي سؤال إضافي… فالنادي وإن كان مغلقًا في النهار إلا أنّ مرتاديه من كبار الشخصيات لهم الحق في طلب الخدمة متى شاؤوا.
ما إن دخل الصبية حتى توجّه زكريّا مباشرة نحو مدير النادي جون آدامز وقدّم له بطاقةً ذهبية ومن ثم قال بنبرة آمرة لا تصدر من طفل:
**”أريد أن تُحضروا إلينا أجمل شبّان ناديكم.”**
لم تكن تلك بطاقة عضوية النادي الراقي بل بطاقة ذهبية مشحونة بالمبالغ أهداها إليه ظافر الذي كان قد عرض بطاقة مشابهة على سيرين لكنها رفضتها… أمّا الليلة الماضية فبعد أن نطق زكريّا—على مضضٍ—كلمة **”أبي”** ناوله ظافر البطاقة بأريحية المنتصر دون أن يطلبها الصغير… أراد زكريّا أن يرفضها أيضًا ولكن شيئًا ما داخله قال له إنّها تعويضٌ مقبول عن الإهانة المعنوية التي اضطر لتجرّعها بعد إجباره على نطق كلمة “أبي” لظافر… وهكذا احتفظ بالبطاقة وعقد العزم على أن يستغلّها حتى آخر نَفَس في ذلك اليوم… كانتقامٍ صغيرٍ بريء من ذلك الوالد الذي لا يزال زكريا يصرّ على وصفه في داخله بـ **”اللّقيط”**.
