رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والواحد والاربعون
لو لم تكن سيرين قد كشفت وجه سارة الحقيقي من قبل لما استطاعت الآن أن ترى ذلك النفاق المتقن وهو يتهاوى أمامها… مرّ في عينيها بريق ازدراء خاطف لكنه كان كافيًا ليقلب الموقف رأسًا على عقب.
قالت سيرين بنبرة هادئة تخفي وراءها غضبًا صامتًا:
“مع من تحاولين مقايضتي هذه المرة؟ أم أنكِ جئتِ فقط لتستغلي وجودي كما اعتدتِ؟”
ارتبكت ملامح سارة وانطفأت ابتسامتها الزائفة ولم تعد قادرة على إخفاء ما بداخلها… وقالت بضيق واضح:
“قلتُ لكِ من قبل… لا تنظري إليّ بهذه الطريقة!”
قالتها وهي تحدّق في عيني سيرين بحدة كأنها تتمنى لو تستطيع انتزاعهما من مكانهما لكن سيرين تجاهلت انفعالها تمامًا وقالت بثبات:
“هل ستغادرين وحدك، أم تريدين أن أرافقكِ إلى الطريق؟”
لم تجد سارة ملجأً للهروب من الهزيمة سوى الصمت فدارت على عقبها وغادرت بلا كلمة وهي تكاد تترنح من ثقل الخيبة وفي طريق العودة بقي ذهنها أسير تلك النظرة الباردة التي طاردتها طوال المسافة وهي تتذكّر كلمات تامر عندما أخبرها بأن سيرين تحتفظ بوصية زوجها الراحل تلك التي منح فيها الشركة لسيرين بدلًا من تامر فاشتعل الغضب في صدرها حتى شعرت برغبة جامحة في نبش قبر ذلك الرجل وكأنها تستطيع محاسبته بعد موته وهي تتمتم بغلّ مكتوم:
“حتى بعد أن رحلت… ما زلت تُعقّد حياتي.”
…………..
كانت هناك نفوس تقضي عمرها كله تحاول تضميد جراح طفولة لم تُشفَ قط وسيرين كانت واحدة منها.
وقفت سيرين تتأمل السيارة وهي تبتعد ثم بقيت في مكانها طويلًا ساكنة كمن يستمع لصدى شيء انكسر ولم يعد قابلًا للعودة كما كان.
فجأة أحسّت سيرين بظل يقترب ثم بثقل معطف دافئ ينسدل على كتفيها… التفتت فوجدت كارم يقف خلفها ملامحه هادئة وقد غمره الصمت كعادته.
سألته سيرين بدهشة خافتة:
“كارم… متى وصلت؟”
أجاب بصوت منخفض:
“للأسف وصلت قبل أن تغادر سارة.”
خفضت سيرين عينيها بخزي وأسفرت شفتيها عن اعتذار مضطرب:
“آسفة لأنك شهدت تلك المواجهة.”
مدّ كارم يده بلطف ونفض بعض الثلج العالق على خصلات شعرها ثم قال بنبرة رقيقة تخالطها عتاب دافئ:
“أتُعاملينني كغريب يا سيرين؟ لقد كنا رفيقي طفولة… ألسنا كذلك؟”
أومأت بصمت وفي عينيها لمعة حزن وكلمات مكبوتة… ثم سألت بصوت خافت:
“وما الذي أتى بك؟”
قال:
“فاطمة دعتني للحضور.”
فهمت سيرين المغزى مباشرة همّ كارم بالدخول لكنها رفعت يدها توقفه ومن ثم قالت بثبات يغلّفه الرفق:
“كارم… تجاهل ما قالته فاطمة… هي فقط قلقة عليّ، وتريد أن تجد من يعتني بي… لكنني قادرة على رعاية نفسي… بل ورعاية الآخرين أيضًا.”
توقفت خطواته وتجمّدت الكلمات في حلقه فكلماتها كانت رفضًا ناعمًا لكنه أدمى شيئًا في داخله ومع ذلك لم يسمح لنفسه بالانسحاب بل اقترب خطوة وقال بصوت يحمل إصرارًا رقيقًا:
“يا سيرين… ما الذي يدور في بالك؟ نحن صديقان لا أكثر… وفاطمة دعتني فقط للعشاء.”
ثم مدّ يده وربّت برفق على رأسها كأنما يهدّئ قلبًا يرتجف أكثر مما يُظهر.
احمرّ وجه سيرين خجلًا حين بلغت كلمات كارم مسمعها؛ عندها فقط أدركت أنها أساءت فهم الموقف برمّته إذ ظنّت أن فاطمة تحاول أن تدفعهما دفعًا نحو الزواج فتمنحهما الفرص وتترك لهما المساحات حتى تشكّل لديها يقينٌ خاطئ بأن الجميع ينتظر حدوث شيء بينهما.
وما إن تكشفت الحقيقة أمامها حتى انحسر التوتر عن ملامحها سريعًا كأنّ صدرها تنفّس بعد ضيق ومن ثم قالت بنبرة أكثر هدوءًا:
“جيّد… سأذهب لشراء بعض البقالة… فقط أخبرني بما ترغب في تناوله.”
راقبها كارم بدهشة خفيفة وقد شعر بشيء من الارتباك أمام هذا التحوّل المفاجئ في سلوكها فقال محاولًا إخفاء اضطرابه:
“كل شيء بخير… وأحب أي شيء تطبخينه.”
ثم لمعت في ذهنه فكرة خاطفة فرفع صوته بحماس غير محسوب:
“بما أنني قدت سيارتي إلى هنا… ما رأيك أن نذهب لشراء البقالة معًا؟”
أجابته سيرين ببساطة هادئة:
“لا بأس… لنذهب.”
صعدت سيرين إلى السيارة وما إن وضعت يدها على حزام الأمان حتى باغتها خاطرٌ سريع أعاد القلق إلى صدرها: زكريّا… من سيأخذه من المدرسة؟
فظافر بطبيعته اللامبالية لن يكلف نفسه عناء اصطحاب ابنه بل اكتفى بإعادته فحسب تاركًا بقية المسؤوليات معلّقة في الهواء فلم تجد سيرين حلًّا سوى الاتصال برامي لترجوه أن يتولى الأمر.
قد مضت فترة طويلة منذ أن ذهبت سيرين إلى السوبر ماركت بنفسها وأول ما خطر في ذهنها هو الجزر؛ فهي تعرف جيدًا عناد ظافر وزكريّا في الطعام وتعلم أنه عليها بذل جهد مضاعف لتجعلهما يأكلان ما يفيدهما أمّا بقية المشتريات فقد تولّى كارم جمعها بنشاط واضح.
وبينما كان يدفع العربة بين الممرات رنّ هاتف كارم فنظر إلى الشاشة وتنهد قبل أن يجيب:
“أنا مشغول يا يامن… ماذا هناك؟”
جاءه صوت يامن من الطرف الآخر يحمل قلق شريك يعرفه جيدًا:
“أنا في شركتك الآن… ما الذي يشغلك؟”
أجاب كارم بنفاد صبر لم يحاول إخفاءه:
“أشتري بعض البقالة مع سيرين… سنتناول العشاء معًا الليلة.”
ساد صمتٌ قصير قبل أن يعلّق يامن بحدّة ممزوجة بالدهشة:
“ألم تقل إن ظافر يعيش في منزلها؟ كارم كن على قدرٍ من الأخلاق… إنها زوجته… لا يصح أن—”
وقبل أن يكمل جملته أغلق كارم الخط بحدّة غير راغب في سماع كلمة أخرى.
