رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الثامن والثلاثون 

"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "

قبل حفلة الزفاف بيومين، وفي مساء يوم الحنَّة تحديدًا، وبعد أن غادرت رحيل غرفة ابنتها، نهضت رولا من فوق فراشها بصعوبة..كان النوم قد هجر جفونها وترك خلفه صداعًا ثقيلًا يضغط رأسها.

تناولت هاتفها واتَّصلت بالخادمة: _عايزة أي مشروب دافي، وحاجة للصداع. 
_حاضر يا أستاذة رولا.

تقدَّمت نحو الشرفة، واستندت إلى السياج الحديديّ تحدِّق في الفضاء الفسيح..أغمضت عينيها تستنشق الهواء بعمق محاولةً تهدئة اضطرابها؛ فقد كان يومًا عصيبًا استنزفها حتى آخرها.

سمعت طرقاتٍ خفيفة على باب الغرفة، فتحرَّكت ظنًّا أنَّها الخادمة، وقالت بصوتٍ واهن: 
_ادخل.

تكرَّرت الطرقات، ثم جاءها صوته من خلف الباب:
_رولا..أدخل؟

انتفضت قليلًا، فسحبت روبها سريعًا وقالت بتقطُّع: 
_لحظة...

ارتدت روبها وأبعدت خصلات شعرها عن وجهها، ثم قالت: 
_ادخل.

دلفت الخادمة أوَّلًا تحمل كوبًا من الأعشاب وبعض أقراص الدواء، وضعتهما على الطاولة وقالت:
_مدام فريدة قالت أعملِّك الأعشاب دي، هتريَّحك وتعرفي تنامي.

قبل أن تردَّ رولا، كان بلال قد تناول أحد الأقراص يقرأ اسمه بعينٍ فاحصة، ثم أشار للخادمة بالخروج..وماإن أُغلق الباب، حتى استدار بنظره إليها: _مالك؟

تراجعت تجلس على طرف الفراش، وردَّت بنبرةٍ هادئة تخفي إرهاقها: _مصدَّعة شوية..إنتَ بتعمل إيه هنا؟ ضي قالت إنُّكم في الكمبوند.

انعقد حاجباه: 
_وبتسألي ضي عليَّ ليه؟!

هزَّت كتفيها بلا اكتراث: 
_مسألتش، هيَّ اللي كانت بتسأل عن يوسف، والكلام جاب بعضه.

أومأ دون تعليق واتَّجه نحو الخزانة، سحب حقيبة صغيرة وقال وهو يفتحها: 
_فيه شوية حاجات كنت شاريها جديد، وجينا هنا ونسيت آخدها، مش هعرف آجي بكرة..مسافر المنصورة وراجع متأخَّر.

نهضت من مكانها فجأة، تساءلت بقلقٍ لم تستطع إخفائه: 
_ليه المنصورة؟

توقَّف عمَّا يفعله فجأة، ورفع رأسه إليها بعينين لا تحملان سوى الضيق: _وده يخصِّك في إيه؟.رولا، أنا مش عايز أزعَّلك بس مبحبِّش اللي بيسأل عن حاجة متخصُّوش..آه، قدَّام الناس إحنا متجوِّزين، إنَّما بيني وبينك هنفضل زي ماإحنا.

في تلك اللحظة، شعرت بالاختناق، فارتجف قلبها، لكنَّها تماسكت، وشدَّت قامتها، وقرَّرت ألَّا تسمح له بكسرها.

قالت ببرودٍ مصطنع: 
_أنا بسألك عادي..ولو نسيت أنا طول عمري كنت بسألك في كلِّ حاجة، وبعدين الجواز اللي بتتكلِّم عنُّه ده ميهمِّنيش، وجودك من عدمه واحد.

التفتَ إليها بحدَّة، وخرج صوته غاضبًا: 
_طيب، ياريت تقنعي نفسك بكده، أنا مش ناقص أصحى في يوم على كارثة وأشيل ذنبك.

اخترقت كلماته صدرها كالسكاكين، تشقُّه ببطء، شعرت لوهلة أنَّ قلبها سيتوقَّف، لكنها ابتلعت غصَّتها وتقدَّمت نحوه بخطوةٍ ثابتة: 
_كارثة إيه!. وبعدين إنتَ مالك علشان تفوق على كارثة؟

اقتربت أكثر، حتى لم يعد بينهما سوى أنفاسهما: 
_أنا عارفة حدودي كويس، وكنت مستغنية عن خدماتك من الأوَّل... متعملش راجل على حسابي يا بلال.

في لحظةٍ خاطفة قبض على ذراعيها بقوَّةٍ مؤلمة، وأصابعه تغرس في لحمها: 
_أنا راجل غصب عنِّك.

مال برأسه قليلًا وصوته انخفض، لكنَّه كان أشدُّ قسوة: 
_واحدة معندهاش دين ولا أخلاق... رمت ودانها لواحدة مجرمة بتبيع وتشتري فيها، وكانت النتيجة إيه..خسرت أغلى حاجة في حياتها.

شدَّ قبضته أكثر: 
_وتسكت، لا..لازم تختمها بحاجة عظمة 

لم تصرخ..لم تبكِ.
لكنَّ شيئًا ما داخلها انكسر بصمت... انكسارًا لا يُرمَّم، ولا يُنسى... 

لحظاتٍ طويلة مرَّت وهي ترمقه بصمتٍ خانق، عيناها تقدحان شررًا كأنَّهما تريدان إحراقه، تراجع خطوةً للخلف كمن لُسِع، التقط حقيبته بعصبيَّة واتَّجه نحو الباب، ثم قال بلهجةٍ جارحة:
_ أنا مبحبِّش البنات الغبيَّة اللي فاكرة إنِّ كلِّ حاجة تتحلّ بالصوت والعناد، وإنتي من زمان قوي كده.

استدار نصف استدارة، وعيناه تتفحَّصان ارتجافها بلا رحمة:
_ طريقتك كلَّها غلط وحذَّرتك ألف مرَّة، بس إنتي مبتسمعيش..دايمًا عاملة نفسك بنت رئيس الجمهورية، الكلِّ لازم يقولِّك حاضر ونعم، حتى الشغالين في بيتكم بقوا يخافوا يكلِّموكي، مش فاهم على إيه!

طاف بنظره على وجهها، وأردف بنبرةٍ أشدُّ قسوة:
_ علشان حلوة شوية!! الجمال مش كلِّ حاجة..وأنا كنت بعمل نفسي مش شايف اللي عملتيه في أبوكي وأمِّك، اللي عيَّشتيهم في جحيم، مش علشان مش فارقلي، لكن علشان الكلام مع شخص غلط مالوش أي لازمة.

رفعت عيناها التي شعر بانكسارها، وأردفت بصوتٍ خرج مبحوحًا، يقطعه البكاء:
_ أنا بكرهك يا بلال!

استدار بكامل جسده هذه المرَّة، وثبَّت عينيه بعينيها كأنَّه يطعنها بنظراته:
_ أنا ماطلبتش منِّك تحبِّيني يا رولا.. كفاية حبِّك لنفسك، كفاية عنادك، وكفاية بُعدك عن ربِّنا..ربِّنا يهدي نفسك قبل ماتضيع منِّك.

ثم أضاف ببرودٍ قاتل وهو يفتح الباب:
_ ولو حاسَّة إنِّك تايهة وعايزة تموتي،  في دواء في الدرج يمكن يريَّحك، واهو اخلص منك

شهقت وهي تصرخ من أعماقها:
_ مش هكمِّل الجواز ده! سمعتني؟ أنا مش عايزة أتجوِّزك!

توقَّف جسده فجأة، وتذكَّر كلمات الطبيب النفسي بعد إفاقتها..التفت إليها فرأى انهيارها الكامل، كانت كمن يقف على حافَّة الجنون؛ تلقي بكلِّ ماتطاله يدها، ودموعها تنهمر بلا توقُّف.

اقترب منها بسرعة:
_ رولا..اهدي!

لكنَّها لم تسمع..ارتفع بكاءها، وخارت قواها حتى سقطت أرضًا، صوتها يتقطع مع كلماتها المتقطِّعة:
_أنا بكره نفسي، بكره نفسي...

كرَّرتها مرارًا وهي تتراجع بجلستها، تحاول الهروب من ذاتها، جلس أمامها وقبض على ذراعيها محاولًا السيطرة على نوبة الانهيار، ثم ضمَّها فجأةً إلى صدره.

انفجرت بالبكاء بين ذراعيه:
_ أنا مش عايزة أبقى كده، مش طايقة نفسي.

همس قرب أذنها بصوتٍ أخف، أقلَّ حدَّة:
_ اهدي خلاص..كلُّه هيعدِّي، صدَّقيني.

ظلَّ يحتضنها طويلًا، يهمس بكلماتٍ واهنة حتى غلبها الإعياء، واستسلم جسدها للنوم..نهض بحذر، حملها ووضعها على الفراش برفق.. 
نظر إلى دموعها المتجمِّدة على وجنتيها..مدَّ إبهامه وأزالها ببطءٍ مؤلم، وعيناه تتجوَّلان في ملامحها الشاحبة، جلس إلى جوارها دقائق ثقيلة، صامتًا، يتساءل للمرَّة الأولى بصدقٍ موجِع:
_هل كان ظنِّه بها خطأ؟

مرَّت تلك الليلة أمام عينيه كصفعةٍ لا تهدأ..ملابس ممزَّقة، انكشاف جسدٍ لم يفارق ذاكرته، شعرٌ أشعث، آثار قبلاتٍ على عنقها، وجرحٌ على شفتيها..كوَّر قبضته بغضبٍ مكتوم، وارتفعت أنفاسه..نهض كالملسوع كأنَّ الحادثة حدثت الآن..غادر الغرفة مسرعًا دون أن يلتفت خلفه.

قاد سيارته وقد أفلت زمام غضبه، فدوى رنين الهاتف:

_ أيوه يا آسر؟
_ إنتَ فين؟
_ كنت بجيب حاجات مهمَّة من فيلَّا السيوفي.
_ طيب متتأخَّرش، الشباب وصلوا...

ساد صمتٌ قصير، ثم قال آسر:
_ يوسف عندك؟
_ آه..لِسَّه واصل.
_ تمام.

أغلق الهاتف، ليرتفع الرنين من جديد:

_ أيوه؟
_ أيوه يا دكتور، دكتورة كارما تعبانة قوي، اتَّصلنا بالدكتور وهوَّ في الطريق، قلت أعرَّفك علشان مانخبيش حاجة عنَّك.
_ تمام، أنا جاي حالًا.

استدار بسيارته متَّجهًا إلى منزل كارما..
وصل بعد دقائق معدودة، وكان الطبيب يهمُّ بالخروج.

_ مساء الخير.
_ مساء الخير.

تبادل بلال نظرةً سريعة مع الخادمة، ثم سأل:
_ مالها كارما يا دكتور؟
_ نزلة شعبيَّة حادَّة، كتبت لها العلاج.

أومأ دون تعليق وأشار للخادمة فتناولته منه، تحرَّك مع الطبيب نحو الخارج، ثم عاد بعد دقيقتين وتوقَّف عند الباب قائلًا:
_ خلِّي حد يجيب الدوا وأنا هتَّصل بممرِّضة تفضل معاها لحدِّ ماتخف، لو في أي جديد عرَّفيني فورًا.

بعد فترة وصل إلى منزله..نزع قميصه وألقاه بغضبٍ على الأريكة، وكلماتها مازالت ترنُّ في أذنه كطرقٍ لا يهدأ، مرَّر يده على شعره بعصبيَّة، فدوى رنين الهاتف..نظر إلى الشاشة، توقّف لحظات وهو يتخصَّر، ثم رفعه:

_ كانت لازمتها إيه الحفلة دي؟ يوسف، أنا على آخري.
رمقه يوسف بضيق ثم قال: 
_ أوَّلًا أنا هلكان وبنام على نفسي..آسر اللي عامل الحفلة، دماغي وجعاني خلَّص وتعال، عايز أخلص من الليلة دي بأيِّ طريقة.

بعد قليل وصل إلى التجمُّع الشبابي.. ارتفع التصفيق والتصفير فور دخوله:

_إيه يا عريس! هوَّ في عريس يشتغل يوم حنِّته برضه؟

ابتسم ابتسامة مجاملة وردَّ بكلماتٍ مقتضبة، كلُّ ذلك وآسر يراقبه بصمت؛ إحساسٌ غامض يتسلَّل إليه بأنَّ هناك شيئًا يحدث دون علمه..قطعت ضحكات الشباب شروده، فاتَّجه إلى يوسف وجلس بجواره:

_ قاعد بعيد ليه، إنتَ زعلان من بلال؟

مال يوسف بجسده للخلف وأغمض عينيه:
_ صداع، عايز أنام..تخيَّل من سبع لتمن ساعات واقف بكلِّ تركيزك، النهاردة عمليِّتين ورا بعض، حاسس إنِّي هقع من طولي.

ربت آسر على كتفه بنبرةٍ حنونة:
_ ربِّنا يقوِّيك ويوفَّقك يارب، شوية واستأذن عادي محدِّش هيقول حاجة.

وقعت عيناه على بلال وهو يخرج يتحدَّث في هاتفه، فأشار مستفهمًا:
_هوَّ رايح فين؟

اعتدل يوسف يراقب تحرُّكه، لمح دخول سيارة حمزة الجارحي، فعاد لوضعه السابق وقال بهدوء:
_حمزة ابن عمُّو إسحاق شكله جاي يحتفل مع بلال.
دلف حمزة ملقيًا السلام، توقَّف آسر ويوسف لتحيَّته، ثم تعرَّف على أصدقائهم من كافَّة التخصُّصات، مضى الوقت وهم يحتفلون بطريقةٍ شبابيَّةٍ طريفة، إلى أن نهض يوسف معتذرًا:
_آسف يا جماعة..كمِّلوا احتفالكم، تعبت وعايز أنام. 
قالها فتوقَّف بلال واتَّجه إليه وهو يغادر المكان، تحرَّك خلفه:
_يوسف..
استدار إليه وتوقَّف دون حديث، اقترب منه وهو يدقِّق النظر بملامحه:
إنتَ لسَّة زعلان منِّي؟. 
هزَّ كتفه وهو يتجوَّل بالمكان بعينيه:
_مش زعلان قدِّ مامتفاجئ، بس برجع وأقول حياتك وإنتَ حرِّ فيها. 

دنا خطوةً منه: 
_يعني لسَّة زعلان؟ 
_مش زعلان قولت لك، حياتك وبراحتك أتمنَّى مترجعشِ تندم، ياله أنا تعبان ومش قادر أفتح عيوني، جيت بس علشان متزعلش..ياله سلام. 

جلس بعد مغادرة الجميع، ينظر بشرود للسماء
_يوم وتبقى متجوز رسمي، مش عارف هتندم بعد كدا ولا ايه 
قطع شروده رنين هاتفه، نظر اليه باابتسامة 
_عرفت انك جيت، متشكرة اوي لاهتمامك 
_بتشكريني على ايه، المهم عاملة ايه دلوقتي 
_أنا كويسة الحمدلله، يعني اتحسنت شوية، انت اخبارك ايه، وعروستك اخبارها ايه، وشكرا لدعوة الفرح 
_مش انا اللي بعت الدعوة 
_عارفة.. والدك زي دعوة كتب الكتاب 
بس زعلانة منك على فكرة، فيه صديق مايعزمش صديقته على فرحه
_كان مستحيل اعزمك ياكارما، نتكلم بعدين... ارتاحي دلوقتي اهم حاجة 

صباح يوم الزفاف…

استيقظت على رنين هاتفها، مدَّت يدها بتثاقل تلتقطه، وعيناها نصف مغمضتين.

_ألو…
قالتها بصوتٍ ناعسٍ مبحوح.

كان يقود سيَّارته عائدًا من المنصورة
_صباح الخير.
اعتدلت بنصف جلستها، وكأنَّ صوته انتزع النوم من جفونها انتزاعًا:

_صباح النور.

_أنا راجع على القاهرة، قدَّامي ساعة إن شاء الله.

_ترجع بالسلامة…
ثم أضافت ببرودٍ متعمَّد:
_بس بتقولِّي ليه؟ الموضوع مايخصِّنيش.

_لا، لازم يخصِّك.
توقَّف لحظة قبل أن يتابع بنبرةٍ آمرة:
_ماما هتيجي لك كمان شوية، وأكيد هتسألك، فلازم تبقي عارفة تردِّي.

_هتصرَّف، متقلقش.

_طيب فوقي كده، أوصل ألاقيكي فايقة..مش عايز حد يشكّ في حاجة.

_خلَّصت، ولَّا لسه فيه أوامر تانية؟

أغلق الهاتف دون أن يرد.

نظرت إلى الشاشة المظلمة لحظة، ثم زفرت بقوَّة واعتدلت تجمع خصلات شعرها بعصبيَّة، نهضت من الفراش وهي تتمتم:

_كلِّ كلامه علشان محدِّش ياخد باله…
سخرت بمرارة، وأكملت:
_الأستاذ نسي إنِّ الكلِّ عارف أصلًا.

توقَّفت قرب المرآة، أخذت نفسًا عميقًا، تمرِّر أصابعها بين خصلاتها محاولةً السيطرة على ارتعاشة قلبها.. وضعت كفَّها فوق صدرها، تهمس لنفسها وكأنَّها توبِّخها:

_اهدي يا رولا، بلال زي آسر.
ابتلعت ريقها بصعوبة:
_اقنعي نفسك بكده…مستحيل يكون جوزك بجد، مستحيل.

رنَّ الهاتف مجدَّدًا، فاستدارت تلتقطه سريعًا:

_أيوة يا ضي.

_صباح الخير يا عروسة.
قالتها ضي بحماسٍ مفرط، وهي تطعم يوسف.

_صباح الخير…
خرج صوتها واهنًا على غير عادته.

_إيه، خلَّصتي؟ ماما لسه مكلِّماني وبتقول إنِّك رفضتي الميكب أرتست تيجي!
ثم أضافت بانفعال:
_إنتي مجنونة يا بت؟

_ضي…
أغمضت عينيها لحظة قبل أن تتابع:
_أنا هجهِّز نفسي..مش محتاجة لكلِّ ده.

ساد صمتٌ قصير، كأنَّ ضي تحاول استيعاب نبرتها، بينما كانت رولا تحدِّق في انعكاسها بالمرآة…
عروسًا بثوبٍ أبيض ينتظرها، وقلبٍ يرتجف كمن يسير إلى مصيرٍ لا يريده.
_أناا مش عروسة..
لكن صاحت ضي فيها بغضبٍ مكتوم:

_فوقي كده، أنا هكلِّم شمس ونعدِّي عليكي نروح الفندق، وهناك بقى الميكب أرتست تيجي، بلاش هنا.

_ضي، أنا قولت إيه؟

_وحدِّ قالِّك إنِّي بتِّصل آخد رأيك؟
قالتها بحدَّة، ثم أردفت:
_أنا بعرَّفك علشان تجهزي، مش ناقصة صداع على الصبح..كفاية الدوك اللي عندي يا أختي.

قالتها وأغلقت الهاتف دون انتظار رد.

رفع حاجبه باستغراب وهو ينظر إليها:

_ماله يا أستاذة الدوك اللي عندك؟

ضحكت بخفَّة، واقتربت تعانق رقبته بذراعيها:

_أحسن دوك في الدنيا.
ثم همست:
_كان لازم أقفل الرغي بتاعها، قالبة مناحة من إمبارح.

قاطعهم طرقٌ خفيفٌ على الباب، تبعه دخول زهرة:

_أستاذة ضي، فستان العروسة وصل… أجيبه هنا ولَّا أخده على بيت أستاذة رولا؟

أشارت إليها دون تردُّد:

_هاتيه يا زهرة.
كان يوسف يحتسي من مشروبه، وعيناه تتبعان الفستان بين يدي زهرة. نهضت ضي، أخذته منها وقالت بثقة:

_قولي لماما أنا هاخده معايا، متقلقش.

_حاضر، محتاجة منِّي حاجة تانية؟

ابتسمت ضي وأشارت للأعلى:

_آه، فوق جبت لك فستان للفرح وأنا بشتري فساتيني، شوفيه مظبوط ولَّا إيه.
ضحكت وأضافت:
_إحنا جسمنا واحد، قيسته عليَّ، لو مش عاجبك كلِّميهم في الأتيليه يغيَّروه.

ابتسمت زهرة بامتنان:

_متشكرة لحضرتك، حضرتك دايمًا بتجيبي لي، وعندي كتير مكنش له لزوم.

_عيب يا زهرة متقوليش كده، إنتي زي أختي.

أومأت زهرة، ثم رفعت عينيها إلى يوسف الشارد:

_دكتور يوسف، أعمل لك قهوة؟

التفت إليها ببطء، كأنَّه لم يسمعها:

_بتقولي إيه؟

قاطعتها ضي بإشارةٍ حازمة للخروج:

_لا، الدكتور هيشرب مشروبه دلوقتي.. اعملي اللي قولت لك عليه.

خرجت زهرة، فأغلقت ضي الباب ثم اقتربت من يوسف، وضعت علبة الفستان جانبًا وجلست على ساقيه تتأمَّل شروده:

_سرحان في إيه؟
طالعها بنظرات عاشقة: 
_بحب فيكي اهتمامك بالتفاصيل الصغيرة، حاجة بسيطة فرحت زهرة جدًا
_رغم اني بضايق منها، وخصوصًا وهي بتقولك، دكتور يوسف اعملك معرفش ايه 
ضحك يضمها يداعب وجهها بأنفه
_بحب جنانك
_ايوة حبه، احسن مااقلب عليك، المهم كنت عايزة اقولك حاجة مهمة 
استمع اليها باهتمام وهو يحاوط جسدها بين ذراعيه
_انا روحت لدكتورة
_دكتورة ليه، انتي تعبانة، وليه ماقولتيش 
لمست وجنتيه وقالت
_اهدى مفيش حاجة.. روحت علشان اعرف ليه الحمل اتأخر، احنا متجوزين بقالنا ست شهور، ومفيش حاجة، قلقت
_الدكتورة قالت لك ايه
_ولا حاجة.. طلبت شوية تحاليل عملتهم، وبعد الفرح هروح لها تاني 
_مادام انتي عايزة كدا، خلاص اعملي اللي يريحك 
_لازم اقولك بردوا 
نهض من مكانه ينظر الى الفستان 

فتنهَّد ثم قال بنبرةٍ غير مرتاحة:

_ليه جبتي الفستان على هنا؟
سكت لحظة قبل أن يتابع:
_مش عايز حد يقول بندخَّل في حياتهم…
ضي، بلال أخوكي بس حياته الخاصَّة مينفعش ندخَّل فيها.

طبعت قبلةً سريعة على شفتيه، ثم همست بجدية:

_يوسف، رولا بتحبِّ بلال.
رفعت رأسها تنظر إليه مباشرة:
_أنا حسِّيت ده من كلامها، وكمان عرفت إنِّ في بنت تانية في حياته.

تنهَّدت وأضافت بألم:

_مش عايزة رولا تتوجع…كفاية اللي حصلها.
ثم قالت بتردُّد:
_بحاول أفكَّر، مش يمكن يكونوا زيِّنا؟

حاوط جسدها بذراعيه، واستند بجبينه على جبينها:

_رغم إنِّي مش عايز حد يكون زيِّنا..
ابتسم ابتسامةً شاحبة:
_بس بجدّ نفسي علاقتهم تكون طبيعية.

ابتعد قليلًا وسحب نفسًا عميقًا:

_اتكلِّمت معاه وشدِّينا مع بعض.
هزَّ رأسه:
_بس الصراحة مقدرش ألومه، هوَّ من حقُّه يختار شريكة حياته.

رفعت يدها، أدارت وجهه إليها، ونظرت في عينيه بثبات:

_حبيبي اسمعني…
قالتها بنبرةٍ أهدأ لكنَّها أعمق:
_أنا مش بقول مايختارش، أنا بقول يمكن في مشاعر ومش قادر يترجمها.

هزَّ رأسه معترضًا:

_ضي، إزاي في مشاعر وهو بيحبِّ واحدة تانية، ماتفكَّري صح.

صمتت لحظات وكأنَّها تزن كلماته، ثم قالت بصوتٍ منخفض لكنَّه حاسم:

_طيب، ممكن ماتعترضش على أي حاجة أنا بعملها؟
رفعت عينيها إليه برجاء:
_مش عايزاك تاخد صف بلال.

تابعت بصوتٍ مكسور:

_أنا، رولا بجد صعبانة عليَّ..دي خسرت كلِّ حاجة.
ابتلعت غصَّتها:
_إنتَ مش حاسس حالتها عاملة إزاي؟

تنهَّد بثقل:

_أنا بإيدي إيه؟
ثم أردف بواقعية مؤلمة:
_بس في حاجة لازم تفهميها، صعب بلال يتقبَّل اللي حصل لرولا..علشان كده مش عايز أضغط عليه.

نظرت إليه بحدَّة:

_يعني مش هتساعدني؟

عقد حاجبيه باستغراب:

_إنتي مجنونة!! أساعدك في إيه؟

اقتربت أكثر، همست بكلماتها وكأنَّها سرٌّ خطير:

_إنَّه يقرَّب من رولا…ويعاملها كزوجة.
رفعت عينيها بقلق:
_يوسف، لو بلال سابها الليلة لوحدها هتتقهر.
توقَّف صوتها لحظة، ثم خرجت الكلمات كطعنة:
_وممكن تموت فيها.

جحظت عيناه، وقد أدرك معنى كلماتها كاملة…

مضت الساعات سريعًا، حتى جاء الموعد المحدَّد.
انتهت من زينتها مع دخول رحيل إلى الغرفة، ارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة:
- ماشاء الله يا حبيبة قلبي زي القمر.
نظرت رولا نحو باب الغرفة، عيناها معلَّقتان به، تنتظر دخول والدها.. التقطت رحيل نظراتها سريعًا، فاقتربت منها واحتوت وجهها بين كفَّيها بحنان:
_ ألف مبروك يا حبيبتي، متفكَّريش في حاجة، كلِّ حاجة هتعدِّي وتبقى أحسن بإذن الله.
همست رولا بصوتٍ خافت يكاد يختفي:
_ إن شاء الله يا ماما.
فركت كفَّيها بتوتُّر، ثم قالت بعد تردُّد:
_ ماما، أنا مش عايزة أقعد مع بلال لوحدنا.
اتَّسعت عينا رحيل بدهشةٍ حقيقيَّة:
_ إيه اللي بتقوليه ده!! ينفع الكلام ده، عايزة الناس تتكلِّم علينا..إنتي نسيتي إنِّ محدِّش يعرف حاجة غير عمامك بس؟ يا حبيبتي سيبي كلِّ حاجة زي ماهيَّ.
_ نقعد عند عمُّو أرسلان في بيته… المهم منبقاش لوحدنا في بيت واحد.
هزَّت رحيل رأسها نفيًا، ونبرتها امتزج فيها القلق بالحسم:
_مينفعش يا حبيبتي، الناس هتقول ليه يوسف في بيت لوحده وبلال لأ.. الناس مابترحمش.
رفعت رولا حاجبيها بمرارة:
_ ناس مين يا ماما؟
تنهَّدت رحيل بثقل:
_ للأسف يا رولا، أقرب الناس لينا، وبعدين علشان محدِّش يشكِّ في حاجة.
قاطع حديثهما دخول ميرال بابتسامةٍ واسعة ونبرة إعجابٍ صادقة:
_ ماشاء الله، زي القمر يا رولا! إيه الجمال ده كلُّه؟
استدارت رحيل إليها:
_طالعة لعمِّتها، مش كده ولَّا إيه؟
اقتربت ميرال من رولا تتأمَّل ملامحها:
_ لا..شبه باباها أوي، مع إنِّ المفروض تطلع شبهك يا أختي.
ابتسمت رحيل ابتسامةً هادئة تخفي خلفها الكثير، وقالت:
_ مش مهمِّ شبه مين، المهمِّ إنَّها حلوة وزي القمر.

دخلت ضي وشمس في تلك اللحظة:
_ أوووه، عروستنا القمر تقول للقمر:   قوم وأنا أقعد مكانك، 
ياله يا عروسة، عريسك هييجي ياخدك من هنا ويطير بيكي.
رفعت رولا عينيها المتلألئتين بالدموع نحو ضي، فاقتربت منها الأخيرة بابتسامةِ مشاكسة:
_ على فكرة بقى أنا حماتك، والمفروض تحترميني ولازم أعمل عليكي حما قرشانة.
ضربتها ميرال بخفَّة على رأسها:
_ هوَّ إنتي ناقصة قرشنة؟
تعلَّقت ضي بذراع ميرال، وقالت بدلال:
_ طيب وحياة ابنك حبيبي، هتلاقي مرات ابن قمر زييِّ كده؟
ضمَّتها ميرال وهي تهزُّ رأسها بثقة:
_ لا طبعًا..ولو لفّ الدنيا كلَّها مش هيلاقي قمر زيِّك.
قبَّلتها على وجنتيها، فابتسمت ضي وقالت:
_ حماتي القمر، كده أحبِّ ابنك بضمير.
دفعتها شمس وهي تتعلَّق بذراع والدتها بغيرةٍ طفوليَّة:
_ وسَّعي بقى، جاية تسرقي أمِّي منِّي؟
كانت رولا تتابع مشهدهم بصمت، ابتسامةٌ باهتة تزيِّن شفتيها، بينما الحزن يتسلَّل إلى صدرها ببطء.
ثم اتَّجهت بنظرها نحو والدتها التي تحرَّكت باتِّجاه آسر..
وهناك، تمنَّت لو يعود الزمن إلى الوراء، أو لو أنَّها لم تبتعد يومًا عن حضن والدتها.

-يلا يا بنات انزلوا، شوية وهيَّ هتنزل.
اقتربت شمس منها، قبَّلت وجنتيها بابتسامةٍ دافئة:
-زي القمر يا لوليتا.
بادلتها ابتسامةً صامتة، قبل أن تلتفت ميرال إلى شمس:
-حبيبتي، متنسيش تحطِّي حاجة على أكتافك، الكمِّ شفَّاف قوي وكلِّ حاجة باينة.
-حاضر يا مامي، ماقلت لحضرتك فيه شال معاه.
خرجت ضي وهي تهاتف زوجها، فهرعت شمس خلفها:
-ضي، استنِّي.
استدارت ضي بنصف جسدها:
-مشوفتيش يوسف، بتِّصل بيه ومش بيردّ.
-أكيد تحت ومش سامع صوت التليفون، هنزل أشوفه متقلقيش.
-تمام، وأنا هحطِّ الشنط في العربية علشان مننساش حاجة.
تحرَّكت شمس، ونسيت تمامًا أن تضع شيئًا على كتفيها.
ماإن دلفت إلى القاعة حتى تقاطعت خطواتها مع أرسلان وآسر:
-عمُّو، شوفت يوسف؟
أشار آسر إلى ممرٍّ طويل يمتدُّ خلف القاعة:
-ادخلي من هنا هتلاقيه.
أومأت وتحرَّكت، بينما نظر أرسلان إلى ساعته واتَّجه إلى آسر:
-اتِّصل شوف بلال جهز ولَّا لأ.
هطلع له..متقلقش.
في الممرّ، كانت شمس تبحث بعينيها، اعترض طريقها أحد الشباب مطلقًا صفيرًا وقحًا:
-الحلو بيدوَّر على إيه؟
مدَّ جسده ليعرقل مرورها، فشدَّت كتفيها بغضب:
-لو سمحت، عيب كده، وممكن أشتكي لمسؤول الفندق.
ابتسم واقترب خطوة، عينه تتجوَّل بلا خجل:
-ده مش جمال شكل بس، ده الصوت موسيقى
لم يُكمل..
في لحظة، كان جسده يهوي على الأرضيَّة بقوَّة.
شهقت شمس، ورفعت رأسها لتقع عيناها على ذلك الذي وقف أمامها كالإعصار، نظراته لو انفلتت لاحترق المكان.
أمسك كفَّها بعنف، وجذبها خلفه متَّجهًا إلى القاعة، غير عابئًا بالأنظار.
كلُّ ذلك جرى تحت نظرات إلياس، الذي كان يمرُّ بالممرِّ المقابل.
هزَّ رأسه مبتسمًا:
-مجنون يا ابن إسحاق، بس عجبني.
ضحك يوسف بمشاكسة:
-طيب ماتريَّحه يا حاج، الواد آخر مايزهق هيخطفها.
توقَّف إلياس، التفت إلى ابنه بنظرةٍ فاحصة:
-وإنتَ إيه رأيك؟
-أنا كنت رافض في الأوَّل علشان شايفها صغيرة، بس هوَّ قال مستعدِّ يستنَّاها، كان موجود معانا في احتفال بلال واتكلِّمنا..بيحبَّها قوي يا بابا، وأنا رأيي توافق..وبعدين هوَّ راضي بكلِّ النتائج، نادر قوي تلاقي حد مستعدّ يتنازل عن كلِّ حاجة علشان حبيبته.
ربت إلياس على كتف ابنه، وسار بجواره:
-ربِّنا يقدِّم اللي فيه الخير..
روح عند عمَّك وخالك، وأنا أجيب جدَّك وجدِّتك وآجي.
_حاضر.
قالها وتحرَّك بينما خرج إلياس خارج الفندق. 
عند شمس
سحبها بعنف، دافعًا إيَّاها إلى داخل الغرفة التي يوجد بها بلال يُجهَّز ا، وصاح والغضب يتفجَّر من صدره:
-إزاي تقفي قدَّام الواد ده؟!
انتفضت، تجاهد لتحرير نفسها:
-حمزة ممكن تهدى؟ هوَّ وقف قدَّامي فجأة وأنا كنت هعرف أتصرَّف، مكنش له أي لزوم الطريقة دي..وبعدين، إنتَ مالك؟
قالتها وهي تنتزع كفَّها من قبضته بقوَّة.
في الخارج، وصل صوت العراك إلى بلال، فخرج على الفور وتوقَّف أمامهما:
-فيه إيه، مالكم؟
ثم وجَّه نظره إلى شمس بنبرةٍ حاسمة:
-انزلي عند البنات، يلَّا.
رمقته شمس بنظرةِ غضبٍ دفين، قبل أن تواجه حمزة مباشرة:
-إياك تقرَّب منِّي تاني، سامعني؟
وقعت عيناه على فستانها الشفاف
_ايه اللي انتي لابساه دا، ماهو له حق يوقف ويعاكس 
توقفت مستديرة إليه، رمقته بنظرة تعني الكثير، ثم قالت: 
_مش شغلك، ومالكش دعوة قالتها و
استدارت، تصفع الباب خلفها بقوَّة.
مرَّر حمزة يده على وجهه بعصبيَّة، أنفاسه متلاحقة.
اقترب منه بلال، وقال بصوت منخفض لكنَّه صارم:
-العصبية دي مينفعش، اهدى..الأوَّل تضمن الموافقة، وبعد كده حاسِب، 
إنَّما تحاسب وهيَّ مش ملكك مالكش حق يا ابنِ عمِّي.

مضت دقائق، وهبطت رولا إلى الأسفل برفقة آسر.
كان يزن ينتظرها بالأسفل، وإلى جواره أرسلان.
توقَّفت أمام والدها، الذي طالعها بصمتٍ لثوانٍ قصيرة بدت لها دهرًا كاملًا، قبل أن يُشير بيده بتقدُّم بلال:
_خد عروستك مكانكم يا حبيبي.
ضغطت رحيل على كفِّه، تنظر إليه بعتابٍ صامت، فهم أرسلان الموقف فحمحم قبل أن يتدخَّل بلطفٍ ثقيل المعنى:
_ طبعًا مش هنوصِّيك على بنت عمَّك يا حبيبي..صح ولَّا إيه؟
هنا رفع بلال عينيه إليها.
تعلَّقت النظرات بينهما للحظاتٍ قصيرة؛ لكنَّها كانت كافية لتربك قلبين.
أنزلت بصرها سريعًا تكبح دموعها، وقد فسَّرت نظرته على أنَّها شفقة…
بينما هو، كان يشعر وكأنَّ أحدهم ألقاه في غياهب الجُب، لا يعلم أكان ماأقدم عليه نعمةً أم نقمة.
بسط كفِّه إليها بعد أن تحرَّك يزن جانبًا، بينما ظلَّت رحيل واقفة بجوار ابنتها.
نظرت إلى كفِّه الممدودة، ثم رفعت عينيها البنِّيتين إليه.
أومأ برأسه، وعيناه تحتضن كلُّ أنش فيها.
مدَّت كفَّها بتردُّد، حتى تعانقت الأيادي.
قبضةٌ قويَّة أحاطت بيدٍ باردة، شعر بها وشعرت هي بثقله.
توقَّف مستديرًا إليها فجأة:
_إيدِك باردة كده ليه؟
أبعدت نظرها عنه، وقالت بفتورٍ مُتعمَّد:
_عادي..يلَّا، وياريت مانطوِّلش، أنا مخنوقة.
نظر إلى رحيل، التي ربتت على كتفه بحنوٍّ حذر:

-معلش يا حبيبي، اعذرها.
قالتها بنبرةٍ ودودة، ثم التفتت إلى ابنتها وهمست بصرامةٍ لا تقبل الجدل:
-مينفعش اللي بتقوليه ده.
تحرَّكت بجواره بهدوءٍ حذر..كان يشعر بارتعاشها يتسلَّل إليه عبر كفِّها..توقَّف فجأة، فاقتربت منه أكثر حتى تلامست الأجساد دون قصد، التفت إليها بقلقٍ مكبوت:
-فيه إيه، ممكن تهدي، بترتعشي كده ليه؟
انبثقت دمعةٌ عنيدة من عينيها، حاولت كتمها لكن صوتها خانها:
-مش عايزة.
شدَّ على فكَّيه محاولًا السيطرة على غضبه من حالتها، وخفض صوته محذِّرًا:
-رولا، إنتي كده بتقولي للي مايعرفش يعرف.
لفَّ ذراعيه حول خصرها بتملُّكٍ واضح، فانتفض جسدها تحت كفَّيه. جذبها أقرب إليه وهمس قرب أذنها:
-اهدي، أنا جنبك…
مش أوَّل مرَّة نبقى مع بعض، يعني المفروض متعوِّدين، مش كده ولَّا إيه؟
ابتلعت ريقها بصعوبة، وعيناها تائهتان:
-مش عارفة مالي، أنا خايفة.
قاطع حديثهما اقتراب يوسف. تدافعت النظرات نحوهما رغم بدء الموسيقى، وقال مستغربًا:
-فيه إيه مالكم؟..الكل بيبصِّ عليكم.
تحرَّكا سريعًا حتى وصلا إلى مكانهما المخصَّص، أوقفهما مسؤول الحفل مع تصاعد موسيقى الرقص، فشدَّها بلال دون كلمة، واتَّجه بها إلى ساحة الرقص.
لفَّ ذراعيه حول خصرها بتملُّكٍ أوضح وقرَّبها إليه، بدأت تتمايل مع الإيقاع بعد همس كلماته المطمئنة، وابتسامةٌ واهنة زيَّنت وجعه الدفين.
طافت عيناه أرجاء القاعة، إلى أن استقرَّتا على كارما الجالسة تراقب حركتهما بصمتٍ..التقطت رولا اتِّجاه نظره، فتصلَّب جسدها.
ثارت غيرة الأنثى بداخلها، رفعت ذراعيها فجأةً تحيط عنقه بجرأةٍ غير مسبوقة، التفت إليها سريعًا لتهمس قرب شفتيه:
-لزوم التمثيل.
أومأ متفهِّمًا، وصوته منخفض:
-تعرفي، طالعة حلوة أوي.
فنطقت  دون وعي،:
_عجبتك يعني؟
هزَّ رأسه بثبات، وعيناه لا تفارقانها:
-جدًّا، فكَّرتيني بضي.
ارتعشت ابتسامتها، وردَّت مقتضبة تخفي مالا تريد ظهوره:
_ أممم..تمام.

بعد فترةٍ تحرَّكا متجاورَين يتقبَّلان التهاني من الجميع، ثم عادا إلى مقعديهما.
ماإن ارتفعت الموسيقى حتى تبدَّل الجوّ دفعةً واحدة..تعالت الزغاريد، وتلاحقت التصفيقات، واندفعت الفتيات نحو ساحة الرقص في حركةٍ جماعيَّةٍ نابضةٍ بالحياة.
تشابكت الأيدي، ودارت الأجساد بخفَّة تتمايل الأجساد على إيقاعٍ صاخب، وتتناثر الخصلات مع كلِّ التفافة.
كانت فرحة الفتيات أوضح من أي لحن، فكلُّ واحدة ترقص بطريقتها، بعفويةٍ لا تعرف التكلُّف.
جذبن العروس إلى المنتصف، أحطنها بدائرةٍ دافئة، يصفِّقن بإيقاعٍ متناغم، والزغاريد تخترق المكان فتشعل الحماس أكثر.
تمدَّدت الابتسامات على الوجوه، وتمايلت الفساتين بألوانها الزاهية؛ الأحمر يلمع تحت الأضواء، والذهبي يبرق
في المقابل، تراجع بلال قليلًا، يقف بعيدًا يراقب المشهد بعينٍ ثابتة، تتبَّعت عيناه حركات رولا بين الفتيات، تفاصيلها الصغيرة، تردُّدها، وابتسامتها الخجولة وهي تحاول الإفلات من جذبهن.
نهضت كارما واتَّجهت نحو الفتيات، انسجمت مع الإيقاع سريعًا، شكَّلن دائرةً أوسع حول رولا وحاولن دفعها للرقص، لكنَّها رفضت بإصرار، تهزُّ رأسها وتبتسم بخجل.
دفعتها ضي بخفَّة إلى داخل الدائرة، وتوقَّفت بمحاذاتها تغمز لها مشجِّعة..
اقتربت رولا وهمست: 
_ ماليش نفس، مش عايزة أرقص.
ثم تراجعت فجأة تمسك بكفِّ شمس، ودارت معها مثل باقي الفتيات، بينما تصاعدت الضحكات من حولهما.
وفي لحظةٍ عفويَّة دفعت إحدى الفتيات كارما إلى داخل الدائرة.
انسابت كارما مع الموسيقى بثقةٍ لافتة، يتمايل جسدها بانسجامٍ أنثويٍّ جذَّاب، بخطواتٍ جريئة لكنَّها مرحة، تزيد الحماس لمن حولها، فلقد
شدَّت الأنظار دون قصد، فتبادلت الفتيات النظرات والهمسات، يتساءلن عن تلك الفتاة ذات الفستان الأحمر..
تضايقت ضي من انسحاب رولا، فتراجعت بدورها وتوقَّفت إلى جوار بلال، بينما ظلَّت الموسيقى مستمرَّة، والزغاريد تتعالى. 
قالت وهي تراقب الدائرة:
_ تعرف البنت اللي بترقص دي؟
قطَّب جبينه والتفت إليها: 
_ ليه؟!.
_ سمعت إنَّها من الأصدقاء..بس مستغربة جرأتها، ترقص بالطريقة دي قدَّام الكل.
أجابها ببرود: 
_ ماإنتوا كنتوا بترقصوا، وده فرح عادي الكلِّ بيرقص فيه.
نظرت إليه بتشكُّك: 
_ إحنا كنَّا بنرقص بالطريقة دي؟
ثم أضافت بسخريَّة: 
_ ولَّا يكون شكل رقصها عجبك؟
انحنى قليلًا ليكون بمستواها، ابتسم نصف ابتسامة: 
_هوَّ عجبني بصراحة، بس مش فاهم إنتي مضَّايقة ليه.
ثم شدَّ نبرته:
_ قولي ليوسف بلاش اللعب ده، أنا مبحبُّوش.
تصلَّبت ملامحها: 
_ تقصد إيه؟ مش فاهمة.
رفع حاجبه ساخرًا: 
_ لا والله، يعني مش جوزك قالِّك مين دي؟
_ وجوزي هيقولِّي ليه إن شاء الله؟!
وقبل أن يرد، اقتحم أصدقاء بلال المكان بعد انتهاء رقصة الفتيات، أحاطوا به يضحكون ويحتفلون بطريقتهم الشبابيَّة، بينما ظلَّ الفرح مستمرًّا في الخلف..
موسيقى، زغاريد، وأجسادٌ ترقص، تخفي تحتها بذور صراعاتٍ لم تبدأ بعد.

بعد قليلٍ انتهى حفل الزفاف، خرجت رولا بجواره متَّجهةً إلى السيارة التي ستقلُّهما إلى منزلهما.

اعترضت غرام فور علمها أنَّ بلال ألغى السفر لقضاء شهر العسل، وقالت بحدَّةٍ لا تخلو من دهشة:
_إيه ده!! إزاي يعني مش هتسافروا؟
زفرت رولا بتعب، لكن أرسلان سبقها وهو يحاول تهدئة الأجواء:
_وبعدين يا غرام، سيبيه براحته.. بيقولِّك بيحضَّر للرسالة، ولمَّا يخلص يسافروا.
استدارت إليه غرام بعينين متَّسعتين:
_إنتَ هتجنِّني يا أرسلان! إزاي مايسافرش، هوَّ بيتجوِّز كام مرَّة؟
ابتسم بلال نصف ابتسامة، وقال بخفَّة وهو يفتح باب السيارة:
_هتجوِّز مرَّة تانية، متخافيش يا ماما.
ثم أضاف وهو يضحك:
_يلَّا بقى، عايزين نروَّح، تعبت من الوقفة الفجر هيدَّن.
رفعت غرام عينيها إليه بغضبٍ مصطنع:
_حتى لو بتهزَّر مش مقبول! إزاي تقول كده قدَّام عروستك؟
التفتت رولا إليها بهدوء، وانتزعت مفتاح السيارة من يده وهي تقول مبتسمة:
_إحنا مش أغراب عن بعض يا طنط غرام، ابنك طول عمره هزارُه تقيل.
قهقه أرسلان، لكن غرام لم تضحك، وقالت بجديَّة مفاجئة:
_طب هتعملي إيه يعني لو اتجوِّز عليكي؟
شهقت غرام قبل أن تنفجر ضاحكة، وتلكمه في كتفه بخفَّة.
تراجعت رولا خطوة، ثم خطت نحوه بخطواتٍ واثقة، وابتسامةٍ تحمل تهديدًا صريحًا:
_طيب اعملها يا روحي، وأنا بقولَّك قدَّام عمُّو وطنط، هموِّتِك يا ببلاوي، وألبِّسك تهمة، ومش هاخد يوم واحد في السجن.
ارتفعت ضحكات أرسلان، فسحبها يضمُّها تحت ذراعيه:
_أيوة كده يا حبيبة عمُّو خلَّصي عليه… محدِّش هياخد حقِّ العيلة منُّه غيرك.
ابتسمت رولا بثقة:
_متقلقش يا عمُّو، خلاص جه تحت إيدي.
رفع بلال حاجبه ساخرًا:
_فين الإيد دي؟ ده لو نفخت فيكي تطيري في السما.
ربت أرسلان على كتفه وهو يضحك:
_يلَّا يا حبيبي، خد عروستك وروَّح بيتك، لو احتجت حاجة كلِّمنا.
ردَّ بلال وهو يفتح باب السيارة:
_على أساس إنتَ في مدينة وأنا في مدينة يا أرسلان، دول خطوتين.
استقلَّت رولا السيارة بجواره، وأسندت رأسها إلى المقعد تتنفَّس بعمقٍ أخير:
_أخيرًا خلصنا..شوية وكان هيغمى عليَّ، روَّحني بقى.
نظر إليها بطرف عينه مبتسمًا:
_اللي يشوفك يقول كنَّا بنعذِّبك.
التفتت إليه ونظرت مباشرةً في عينيه، وقالت بصوتٍ خافت لكنَّه ثقيل:
_فيه كلمات بتعذِّب أكتر من الفعل يا دكتور…
توقَّفت لحظة، ثم أضافت بصدقٍ موجع:
_وإنتَ عارف إنِّي ماكنتش موافقة على المسرحية دي كلَّها.

-لازم تتحمِّلي، علشان بعد كده تشغَّلي دماغك قبل ماتعملي نفسك ناصحة..
-وبعدين، هوَّ إحنا مش هنخلص من الاتِّهامات دي؟ أنا عرفت إنَّك ضحِّيت.
-طيب، ياريت تعرفي قيمة التضحية.
-تقصد إيه يا بلال؟
-لمَّا نروح…
بمنزل إلياس..
خلعت حذاءها أوَّل مادلفت إلى الداخل، وأسندت ظهرها للحائط تزفر بتعب:
-ياااه..أخيرًا، سبع ساعات واقفين! ده أنا ماتعبتش يوم فرح يوسف كده.
رمقها إلياس بتسلية وهو يخلع ساعته:
-كبرتي يا مرمر، ومبقتيش قادرة تتحمِّلي.
اقتربت منه وطوَّقت عنقه بذراعيها بدلال:
-خلاص كبرت عليك يا إلياس؟
حاوط خصرها، وغمز لها بخبث:
-أوي أوي، ولازم أشوف قطعة صغيرة.
قطع حديثه حين دفنت رأسها فجأة، وضغطت بأسنانها على عنقه، ثم تراجعت بخفَّة وصعدت الدرج دون أن تنطق بكلمة.
تجمَّد لحظة، ثم انفلتت ضحكةً خافتة من شفتيه.
رغم السنين، مازالت غيرتها تفضحها… عيناها تسبق أفعالها دائمًا.
-بابا، حضرتك طلبتني؟
أشار إليها بيده..تقدَّمت نحوه، فحاوط كتفيها وتحرَّك بها إلى الأريكة، جلس وجلسَت بجواره، ضمَّها تحت ذراعيه:
-كلِّمتي حمزة النهاردة…
ارتبكت قليلًا، ثم أومأت برأسها:
أيوه، شدِّينا قبل الفرح، وبعد الفرح كان عايز يعتذر، بس ده اللي حصل.
اعتدل في جلسته، وحدَّق في عينيها طويلًا:
-بتحبِّيه يا شمس؟
طأطأت رأسها، وفركت كفَّيها بتوتر، تهرب بعينيها من نظراته الثابتة:
_وإيه فايدة الحبِّ يا بابا، وإحنا مالناش نصيب في بعض؟
أمسك ذقنها برفق، ورفع وجهها نحوه:
_بُصِّيلي وإنتي بتتكلِّمي، إنتي ماعملتيش غلط علشان تنزلي راسك كده.
رفعت عينيها إليه، وصوتها خرج مرتجفًا:
_بحاول يا بابا أشيله من قلبي… بحاول، بس مش عارفة هقدر ولَّا لأ.
مرَّر يده على خصلاتها بحنان، وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ دافئة:
_تعرفي وإنتي صغيرة، كان بيقعد يعاند فيكي علشان قصيرة؟
هزَّت كتفها بخفَّة، ولمعت عيناها بسعادةٍ طفوليَّة صافية:
_قالِّي كده مرَّة..ماكنش مصدَّق إنِّ أنا اللي كان بيتريق عليها.
ضحك بخفَّة، وكأنَّ الذكريات عادت فجأة:
_أوووه..ده عمل فيكي حاجات، في مرَّة ربط شعرك في الكرسي علشان وقَّعتي عمران إنتي وضي.
هزَّت رأسها باستغراب، وابتسامةٌ خجولة على شفتيها:
_مش فاكرة خالص.

ضمَّها إليه ضاحكًا:
كنتي صغنَّنة أوي..ستِّ سنين، وهوَّ ماكانش بييجي كتير، أصلهم أخدوا الثانوية برَّة مصر، ومارجعش غير على الكليَّة.
استمعت إليه بشغف، وبدأت تحاوره بطفولتها.
مضت ساعةٌ ونصف وهما يضحكان ويتذكَّران، أبٌ وابنته بلا حواجز..
نهضت، ثم قبَّلت وجنتيه:
-تصبح على خير، الفجر خلاص يادوب أنام ساعتين.
أومأ لها بابتسامة، تحرَّكت خطواتٍ قليلة، ثم توقَّفت فجأة، وارتجف جسدها حين نطق إلياس بنبرةٍ هادئة:
-نامي كويس، ماينفعش عروسة وشَّها يكون منتفخ، ويرجع الكابتن يلومنا.
استدارت بسرعة، تجمَّدت ملامحها، وابتلعت ريقها بصعوبة:
-حضرتك بتقول إيه؟!.
نهض من مكانه، واقترب خطوةً خطوة:
-بُكرة هيكون فيه هنا كابتن دمُّه تقيل، جاي يخطف شمس أبوها.
ثم تنهَّد بابتسامةٍ موجوعة:
-اللي اتنازل عنها للأسف، هتنساه وتروح للأهبل.
انبثقت دمعةٌ من عينيها، ثم ألقت بنفسها في أحضانه:
-لا طبعًا! هتفضل إنتَ حبِّي الأوَّل، أنا بحبَّك أوي يا بابا.
ضمَّها بقوَّة إلى صدره، ولم يشعر بدموعه التي انسالت على وجنتيه:
-آسف يا حبيبة بابي، أهمِّ حاجة عندي سعادتك..أوعي تشكِّي في ده أبدًا.
ابتعدت قليلًا، تنظر إليه بعينين دامعتين:
-أنا بحبَّك أوي يا بابا.
قبَّل جبينها:
-ألف مبروك يا قلب بابا، عايزك دايمًا بتضحكي..عايز شمس تفضل شمس، تنوَّر العالم كلُّه، ومحدِّش يقدر يوصلَّها.
أومأت برأسها مرارًا:
-أوعدك، يا أحسن بابا في الدنيا.


تعليقات