![]() |
رواية عشق ودموع الفصل الثالث بقلم سوسو أحمد
حين يلتقي الطريقان
لم يكن الصباح مختلفًا في شكله،
لكن مريم شعرت منذ اللحظة الأولى أنه مختلف في جوهره.
السماء نفسها، الشوارع ذاتها، والضجيج المعتاد…
ومع ذلك، كان هناك ثقل خفي يرافقها، كأن اليوم يحمل سرًا لم يُكشف بعد.
في قاعة الاجتماعات، جلست مريم في مكانها المعتاد. رتبت الأوراق أمامها بعناية مبالغ فيها، تحاول أن تُشغل يديها عن ارتجافة خفيفة في صدرها. ألقت نظرة سريعة على الباب المغلق، ثم أشاحت بوجهها، وكأنها توبّخ نفسها على انتظار لا تعترف به.
دخل المدير أولًا، ثم بعض الوجوه المألوفة، تبادلوا التحيات، كلمات رسمية، ضحكات خفيفة.
ثم…
انفتح الباب مرة أخرى.
دخل آدم عمر المحمدي.
لم يكن دخوله استعراضيًا، ولم يلفت الأنظار بصوت أو حركة، لكن حضوره كان واضحًا على نحو أربك المكان. طويل القامة، ملامحه حادة دون قسوة، عينان تحملان شيئًا من التحدي وشيئًا أكبر من الإرهاق. كان يبدو كرجل اعتاد أن يُمسك بزمام الأمور، حتى وهو صامت.
شعرت مريم بانقباض مفاجئ في صدرها.
لم يكن إعجابًا، ولم يكن حبًا…
كان دهشة خالصة، غير مبررة.
رفعت عينيها نحوه في اللحظة نفسها التي رفع فيها نظره عن الحضور.
التقت الأعين لثانية واحدة فقط.
ثانية قصيرة، لكنها كانت كافية لتُربك التوازن الذي حافظت عليه طويلًا.
آدم لم يحدّق.
لم يبتسم.
لكنه شعر بشيء غريب… إحساس غير مألوف، كأن هذا الوجه الهادئ يحمل حكاية لا تشبه بقية الوجوه التي مرّت في حياته.
حوّل نظره سريعًا، جلس في مكانه، وكأن شيئًا لم يحدث.
لكن شيئًا ما كان قد حدث بالفعل.
بدأ الاجتماع.
أصوات، عروض، أرقام، خطط مستقبلية.
مريم كانت تشرح جزءًا من المشروع، تتحدث بثبات ظاهري، لكن عقلها كان يعمل بجهد مضاعف كي لا ينزلق إلى تلك اللحظة العابرة. كانت تشعر بنظرات آدم أحيانًا، لا تتأكد إن كانت حقيقية أم من صنع توترها.
وحين جاء دوره في الحديث، تغيّرت نبرة القاعة.
صوته كان واثقًا، مباشرًا، لا يعرف الالتفاف. لم يكن يُجمّل الحقائق، ولم يسعَ لإرضاء أحد. يتحدث وكأنه يضع قواعد لعبة لا يقبل الخسارة فيها.
مريم استمعت إليه بتركيز حقيقي هذه المرة.
رأت فيه عكس يوسف تمامًا.
حِدّة بدل الهدوء، مخاطرة بدل أمان، نار بدل طمأنينة.
وانتهى الاجتماع.
وقف الجميع، تبادلوا المصافحات. حاولت مريم أن تجمع أوراقها بسرعة، أن تخرج قبل أن تضطر لأي تفاعل مباشر. لكنها سمعت صوته خلفها، هادئًا على غير المتوقع:
— «أستاذة مريم… عرضك كان واضح جدًا.»
التفتت ببطء.
وجدته يقف على مسافة محترمة، ابتسامة خفيفة على شفتيه، لا تحمل ودًا زائدًا ولا برودًا.
— «شكرًا.»
قالتها باختصار، نبرة رسمية تحاول الاحتماء بها.
— «واضح إنك فاهمة المشروع كويس.»
— «ده شغلي.»
رفعت حاجبها دون وعي، ثم أدركت فعلتها سريعًا.
ابتسم آدم ابتسامة أوسع قليلًا، كأنه التقط تلك الحدة الصغيرة.
— «واضح فعلًا.»
ساد صمت قصير.
لحظة معلّقة، لا تعرف فيها إن كان الحديث انتهى أم بدأ للتو.
— «تشرفت بمعرفتك.»
قالها أخيرًا، ومدّ يده بمسافة محسوبة.
ترددت لجزء من الثانية، ثم صافحته.
لم تكن مصافحة طويلة، ولا حميمية، لكنها كانت كافية لتُشعل إحساسًا غير مريح في داخلها. سحبت يدها بسرعة، أومأت برأسها، وانسحبت.
خرجت من القاعة وقلبها يخفق على غير عادته.
كانت تعلم، بوضوح مخيف، أن هذا الرجل ليس مجرد شريك عمل.
وأن هذا اللقاء… ليس عابرًا كما يجب.
في المساء، جلست إلى جوار يوسف على الأريكة. كان يحدثها عن يومه، عن تفاصيل بسيطة، عن زميل في العمل. كانت تستمع، ترد، تبتسم في الوقت المناسب. لكن عقلها كان يعود مرارًا إلى صوت آخر، ونظرة أخرى.
لاحظ يوسف شرودها، لكنه لم يُعلّق.
اكتفى بأن قال بهدوء: — «يومك كان طويل؟»
هزّت رأسها: — «آه… شوية.»
لم تكذب.
لكنها لم تقل الحقيقة كاملة.
في غرفتها، قبل النوم، جلست على حافة السرير.
وضعت يدها على صدرها، تشعر بتسارع نبضها، وقالت لنفسها بصوت خافت: ده مجرد لقاء… مش أكتر.
لكن قلبها لم يكن مطمئنًا.
وفي غرفة أخرى، في فندق يطل على المدينة، كان آدم يقف أمام النافذة، ينظر إلى الأضواء المتناثرة.
لم يفكر في العمل.
لم يفكر في الصفقات.
كان وجه واحد فقط يفرض نفسه على ذاكرته…
وجه امرأة هادئة، متزنة، لكن عينيها تحملان شيئًا لم يستطع تفسيره.
ابتسم بسخرية خفيفة، وقال لنفسه: — «واضح إن الرجوع مش هيعدي سهل.»
لم يكن يعلم أن هذا اللقاء، الذي بدا مهنيًا تمامًا،
هو أول خيط في شبكة معقّدة،
ستُختبر فيها القلوب،
وتُعاد فيها تعريفات الأمان،
وتُكسر فيها قواعد ظنّ الجميع أنها ثابتة.
مرّت الأيام التالية ببطءٍ غريب،
لا هي ثقيلة بما يكفي لتُعلن خطرًا،
ولا خفيفة بما يسمح بتجاهل ما بدأ يتشكّل في الداخل.
مريم حاولت أن تعود إلى إيقاعها المعتاد.
استيقاظ مبكر، عمل منتظم، عودة هادئة إلى بيتٍ منظم أكثر مما تشعر به. كانت تؤدي كل شيء بإتقان، كما اعتادت دائمًا، لكن ذلك الشعور الخفي ظل يرافقها… شعور بأن شيئًا ما خرج عن مساره الصحيح، دون أن يطلب الإذن.
في العمل، تكررت الاجتماعات.
وجود آدم أصبح واقعًا لا يمكن تجاوزه. لم يقترب، لم يتعمد الاحتكاك، لكنه كان حاضرًا في التفاصيل: في نبرة صوته حين يناقش، في طريقته الحاسمة في اتخاذ القرار، وفي نظرته التي تمرّ عليها أحيانًا، وكأنها تلتقط شيئًا لا تريد أن تعترف به.
كانت تحرص على أن تبقي المسافة آمنة.
تخاطبه بصفة رسمية، لا تسمح للحوار أن يطول، ولا لنبرة أن تلين. لكنها في داخلها كانت تشعر بتناقض مؤلم:
لماذا كل هذا الجهد؟
ولماذا هذا القلق من شيء لم يحدث؟
أما آدم، فكان يراقب بصمت.
لم يكن من الرجال الذين يندفعون خلف الإحساس، لكنه لم يكن أعمى عنه أيضًا. رأى في مريم نوعًا من النساء لا يُقابل كثيرًا؛ هدوء لا يعني ضعفًا، وقوة لا تحتاج إلى استعراض. وكان يشعر، كلما حاول أن يتعامل معها كأي زميلة عمل، بأن هناك حاجزًا شفافًا يفصل بينهما… حاجزًا صنعته هي بعناية.
وفي إحدى الأمسيات، تأخر العمل.
غادر الموظفون واحدًا تلو الآخر، وبقيت مريم تراجع بعض الملفات. رفعت رأسها فجأة لتجد المكتب شبه خالٍ، وصوت خطوات يقترب.
كان آدم.
— «لسه شغالة؟»
قالها بنبرة طبيعية، لا تحمل اقتحامًا.
— «آه… هخلص حالًا.»
أجابت دون أن تنظر إليه.
— «مش لازم تضغطي على نفسك.»
توقفت يدها لحظة، ثم أغلقت الملف.
— «متعودة.»
نظر إليها لثوانٍ، ثم قال بهدوء: — «التعود مش دايمًا حاجة كويسة.»
رفعت عينيها أخيرًا.
التقت نظراتهما من جديد، لكن هذه المرة لم تكن خاطفة.
كان هناك شيء صادق في كلامه أربكها أكثر مما توقعت.
— «في ناس بتحتاج النظام علشان تحس إنها ثابتة.»
قالتها بنبرة دفاعية.
— «وفي ناس بتختبئ ورا النظام علشان متواجهش.»
سكت الاثنان.
الهواء بينهما صار أثقل، وكأن الحديث تجاوز حدود العمل دون أن يذكر اسم أي شيء آخر.
خفضت مريم نظرها سريعًا: — «لو تسمح… عندي حاجة لازم أخلصها.»
أومأ آدم، تراجع خطوة: — «طبعًا.»
خرج، لكن كلماته بقيت.
جلست مريم وحدها، تشعر أن صدرها ضاق فجأة.
لم تكن غاضبة منه…
كانت غاضبة من نفسها، لأنها شعرت أن كلامه أصاب شيئًا دقيقًا بداخلها.
في البيت، كان يوسف ينتظرها.
العشاء جاهز، التلفاز يعمل بصوت منخفض، والهدوء يملأ المكان. رحّب بها بابتسامة صادقة، وسألها عن يومها. أجابت باختصار، كما تفعل دائمًا حين لا تعرف من أين تبدأ.
جلسا معًا، لكن المسافة بينهما بدت أوسع من المعتاد.
يوسف لاحظ ذلك هذه المرة.
— «مريم… في حاجة مضايقاك؟»
نظرت إليه، إلى ملامحه الهادئة، إلى الأمان الذي لم يخنها يومًا.
أرادت أن تقول: مش عارفة.
لكنها اكتفت بـ: — «لا… بس تعبانة شوية.»
مدّ يده، وضعها فوق يدها: — «لو في أي وقت حابة تتكلمي… أنا موجود.»
ابتسمت له، ابتسامة امتنان ممزوجة بثقل لا يُقال.
في تلك الليلة، لم تنم سريعًا.
ظلت تحدّق في السقف، تتقلب بين صورتين:
رجل يمنحها الأمان دون شروط،
ورجل يوقظ بداخلها أسئلة لم تكن مستعدة لها.
وفي مكان آخر، كان آدم يجلس وحده، يفكر.
لماذا هذه المرأة تحديدًا؟
ولماذا يشعر أن الاقتراب منها سيكون خطأ… لكنه خطأ يصعب تجنبه؟
قال لنفسه بصرامة: هي متزوجة. والنهاية معروفة.
لكن قلبه، ولأول مرة منذ زمن،
لم يكن مقتنعًا بالمنطق وحده.
في الأيام التالية، بدأت التفاصيل الصغيرة تفعل فعلها البطيء والخطير، لم تكن هناك قفزات مفاجئة، ولا اعترافات، ولا اقتراب صريح، كان كل شيء يحدث في المساحات الرمادية… حيث لا ذنب واضح، ولا براءة كاملة. مريم صارت أكثر صمتًا، ليس صمت الانسحاب، بل صمت المراقبة، تراقب نفسها قبل أن تراقب آدم، تراقب كيف يتغيّر إيقاع قلبها حين تسمع صوته في الممر، وكيف تنتبه لوجوده قبل أن تراه، وكيف يختفي يوسف من أفكارها أحيانًا دون قصد، ثم يعود بثقله حين تشعر بالذنب. كانت تكره هذا الشعور، تكره أن تكون زوجة صالحة على الورق، ومضطربة في الداخل، تكره أن تشعر أن الأمان الذي اختارته بعقلها، بدأ يُطالبها بثمن لم تكن مستعدة لدفعه. أما آدم، فكان يخوض صراعًا من نوع آخر، لم يحاول الاقتراب خطوة واحدة خارج الإطار المهني، لكنه وجد نفسه يعيد قراءة كلماتها، نبرتها، صمتها، كان يشعر أنها تضع حدودًا لا لأنها لا تريد، بل لأنها تريد أكثر مما ينبغي. وفي أحد الأيام، حدث ما لم يكن في الحسبان، طُلب من الفريقين السفر ليومين خارج المدينة لإتمام المرحلة الأخيرة من المشروع، اجتماعات مكثفة، مبيت واحد، جدول صارم. حين وصل البريد الرسمي، شعرت مريم ببرودة في أطرافها، قرأت التفاصيل مرة، ثم مرة أخرى، حاولت أن تقنع نفسها أن الأمر طبيعي، مهني، لا يحمل أي تهديد، لكن قلبها لم يكن هادئًا. في المساء، أخبرت يوسف، قالت الأمر كما لو كان تفصيلًا عابرًا: «في شغل يومين بره… شركة المشروع»، نظر إليها، ابتسم ابتسامة خفيفة: «تمام… ربنا يوفقك»، توقفت لحظة، كانت تنتظر سؤالًا، اعتراضًا، أي شيء، فقالت دون تفكير: «مش هتسأل مع مين؟»، نظر إليها باستغراب بسيط: «ما هو شغل… مش كده؟»، أومأت، لكن قلبها انقبض. في تلك الليلة، شعرت لأول مرة أن المسافة بينهما لم تعد فقط صمتًا… بل اختلافًا في الإحساس. جاء يوم السفر، في الحافلة جلست مريم قرب النافذة، حاولت أن تشغل نفسها بالمنظر الخارجي، لكنها شعرت بوجوده قبل أن يجلس، آدم جلس على المقعد المقابل، بمسافة محترمة، دون كلمة واحدة، تبادلوا التحية الرسمية، ثم ساد الصمت، وطوال الطريق كان كل شيء محكومًا بالصمت، لكن الصمت هذه المرة لم يكن مريحًا. في الفندق، انقسم الفريقان إلى مجموعات، غرف منفصلة، تعليمات واضحة، لا مجال للخطأ، ومريم التزمت بكل شيء بحرفية شديدة، وكأنها تحتمي بالقواعد. في إحدى الجلسات المسائية، احتدم النقاش، آدم كان حادًا، مريم كانت دقيقة، وكل منهما يدافع عن وجهة نظره بقوة، لم يكن الخلاف شخصيًا، لكنه كان مشحونًا على نحو غير مريح، قالت بثبات: «الطريقة دي فيها مخاطرة كبيرة»، فرد بنبرة حاسمة: «وأحيانًا المخاطرة هي الحل الوحيد»، التقت أعينهما، لم يكن في النظرة تحدٍ فقط… كان شيء أعمق، أخطر. انتهى الاجتماع متوترًا، خرج الجميع، وبقيت مريم تجمع أوراقها بيد مرتعشة، شعرت به يقف خلفها، نطق اسمها دون ألقاب لأول مرة: «مريم»، التفتت ببطء وقالت: «لو سمحت… خليك في إطار الشغل»، تنفّس بعمق: «أنا بحاول… بس واضح إننا مش بنضحك على نفسنا»، شعرت بدقات قلبها تعلو وقالت: «إحنا الاتنين عارفين إن الكلام ده لازم يقف هنا»، اقترب خطوة ثم توقّف: «وأنا عارف كمان إنك مش مرتاحة… زيّي بالضبط»، صمت، ثوانٍ مشدودة كوتر، ثم قالت أخيرًا وكأنها تضع حاجزًا أخيرًا بينهما: «أنا متجوزة»، نظر إليها طويلًا ثم قال بصوت منخفض: «وعلشان كده… أنا خايف»، هذه الكلمة كانت أخطر من أي اعتراف. انسحبت مريم بسرعة، دخلت غرفتها، أغلقت الباب، وأسندت ظهرها إليه، وضعت يدها على فمها كي لا يخرج صوت لم تكن مستعدة له، كانت تعلم الآن أن ما يحدث لم يعد مجرد ارتباك عابر. وفي تلك الليلة، لم يغمض لآدم جفن، جلس على حافة السرير، يفكر في امرأة ليست له، وفي طريق بدأ يتشعّب أكثر مما ينبغي. في صباح اليوم التالي، وقفت مريم أمام المرآة، وجهها هادئ، لكن عينيها كانتا مختلفتين، قالت لنفسها بصوت خافت: «لازم أوقف ده… قبل ما يكبر»، لكن بعض الأشياء، حين نحاول إيقافها، تكون قد تجاوزت نقطة السيطرة بالفعل. وقبل أن تغادر الغرفة، رنّ هاتفها، رسالة واحدة فقط من رقم غير مسجّل: «مريم… محتاج أكلمك قبل ما نرجع»، تجمّدت في مكانها، شعرت أن الأرض تميد تحت قدميها، رفعت رأسها ببطء، نظرت إلى المرآة مرة أخيرة، وسألت نفسها السؤال الذي كانت تهرب منه منذ البداية: هل الخطر الحقيقي هو أن نحب؟ أم أن نكتشف متأخرين أننا لم نكن نعيش أصلًا؟ —
وهكذا… لم تعد العودة كما كانت في حسابات مريم. في طريق الرجوع، كان الصمت أثقل من ذي قبل، الحافلة تسير، والوجوه شاحبة من الإرهاق، لكنها كانت تشعر أن المسافة الحقيقية ليست بين مدينة وأخرى، بل بينها وبين نفسها. حاولت أن تتجنب النظر نحوه، أن تحتمي بالنافذة، بالهاتف، بأي شيء يقيها مواجهة إحساس تعرف أنه إن خرج عن السيطرة فلن تستطيع إعادته. آدم التزم الصمت هو الآخر، لكن صمته لم يكن هروبًا، كان قرارًا مؤجلًا، كمن يعرف أن المواجهة قادمة لا محالة، لكنه يختار اللحظة التي تُحدث أكبر أثر. وصلت إلى بيتها مع حلول المساء، استقبلها يوسف بابتسامته المعتادة، احتضنها بحب صادق، شعرت بالأمان يعود للحظة، لكنه أمان هش، كزجاج رقيق يخشى أول ارتطام. في تلك الليلة، جلسا يتحدثان عن أشياء عابرة، لكنها كانت تشعر أن هناك مسافة جديدة وُلدت بين كلماتهما، مسافة لا تُرى، لكنها تُحسّ. وقبل أن تنام، اهتز هاتفها مرة أخرى، رقم مجهول، رسالة واحدة قصيرة: «مش هضغط عليك… بس في كلام لازم يتقال.» أغلقت الهاتف بسرعة، وضعتْه بعيدًا، وكأنها تحاول إبعاد الفكرة نفسها، لكنها لم تستطع. أغمضت عينيها، فحضرت صورته بلا استئذان، وصورة يوسف معها في المشهد ذاته، قلبها عالق بين رجلين، وبين طريقين، أحدهما آمن لكنه بارد، والآخر مجهول لكنه حيّ. في اللحظة نفسها، كان آدم يقف في شرفته، ينظر إلى المدينة التي عاد إليها، ويدرك للمرة الأولى أن بعض المعارك لا تُخاض بالسلاح ولا بالعقل، بل بالقلب، وأنه دخل معركة خاسرة إن تقدّم… ومؤلمة إن تراجع. وفي فجر يوم جديد، كانت مريم تقف أمام المرآة، ترتدي ثوبها للعمل، تنظر إلى نفسها طويلًا، وتهمس: «لو استمريت… هخسر نفسي. ولو انسحبت… يمكن أعيش ناقصة.» رنّ هاتفها مرة ثالثة، هذه المرة اتصال. توقّف الزمن لثوانٍ، نظرت إلى الاسم غير المسجّل، يدها معلّقة في الهواء، تتردد بين الرفض والقبول. وفي اللحظة التي امتدت فيها أصابعها نحو الشاشة، كان يوسف يناديها من الخارج: «مريم… مستعجلين.» هنا فقط أدركت أن الاختيار لم يعد مؤجلًا، وأن الفصل القادم لن يكون عن مشاعر خفية ولا صمت طويل، بل عن قرار… وقرار كهذا لا يمرّ دون ثمن.
لكن مريم لم تردّ على الاتصال.
لا في اللحظة دي… ولا بعدها بدقائق.
مدّت يدها وأغلقت الهاتف ببطء، كأنها تغلق بابًا في داخلها، بابًا لو فُتح لن تستطيع التحكم فيما يخرج منه. التفتت إلى المرآة مرة أخيرة، رأت امرأة تبدو ثابتة من الخارج، لكن في عينيها شرخ صغير، شرخ لا يُرى إلا لمن يعرف أين ينظر.
خرجت من الغرفة، لحقت بيوسف.
في الطريق، كان يتحدث بحماس عن خططه لليوم، عن أشياء بسيطة، عن تفاصيل الحياة التي تُبنى من التكرار. كانت تهز رأسها، تبتسم حين يجب، لكنها تشعر أن الكلمات تمرّ بجانبها لا بداخلها. كانت هناك فكرة واحدة تطرق رأسها بإصرار: هل الأمان يكفي؟
في العمل، حاولت أن تغرق نفسها في الملفات. أرقام، مواعيد، تقارير. كل شيء واضح، منظم، لا يحتمل الالتباس. على عكس ما في صدرها.
تجنبت الممرات التي قد تصادفه فيها. وحين سمعت صوته من بعيد، شدّت كتفيها دون وعي، كمن يستعد لضربة يعرف أنها قادمة، لكنه لا يعرف متى.
وعند الظهيرة، جاءها بريد إلكتروني قصير، رسمي جدًا، موقّع باسمه:
«محتاجين نراجع نقطة أخيرة في المشروع قبل العرض النهائي. الاجتماع الساعة ستة.»
قرأت الرسالة أكثر من مرة.
لم يكن فيها شيء خاطئ.
لكن قلبها لم يصدق البراءة الكاملة.
حاولت أن تعتذر. كتبت جملة، ثم مسحتها. كتبت أخرى، ثم تراجعت. في النهاية، أغلقت البريد كله. لم تردّ بالموافقة… ولم تعتذر. تركت الأمر معلّقًا، كما تركت كل شيء آخر في حياتها هذه الأيام.
مع اقتراب المساء، بدأ المكتب يفرغ. الأصوات تخفت، الأضواء تُطفأ واحدًا تلو الآخر. نظرت إلى الساعة. الخامسة وخمسون دقيقة.
وقفت. أخذت حقيبتها.
ترددت.
كان بإمكانها أن تمشي. أن تنهي اليوم دون مواجهة.
لكنها لم تفعل.
في السادسة تمامًا، كانت تقف أمام قاعة الاجتماعات الصغيرة. الباب نصف مفتوح. الضوء بالداخل خافت. ترددت لثانية، ثم دفعت الباب ودخلت.
كان آدم وحده.
وقف عندما رآها. لم يبتسم. لم يقترب. فقط قال بهدوء:
— «كنت فاكر إنك مش هتيجي.»
— «ولا أنا.»
خرج صوتها أهدأ مما شعرت.
ساد صمت ثقيل.
الصمت الذي يسبق الاعتراف… أو الهروب.
— «مش هطوّل.»
قالها وهو يشير إلى الكرسي، لكنها لم تجلس.
— «لو الموضوع شغل، ابعتلي على الإيميل.»
قالتها بنبرة حاسمة، كأنها تحاول إنقاذ ما تبقى من سيطرتها.
نظر إليها طويلًا. ثم قال بصوت منخفض:
— «إحنا الاتنين عارفين إن ده مش شغل.»
ارتجفت أنفاسها، لكنها تماسكت.
— «وأنا عارفة إن أي كلام زيادة هيبقى غلط.»
— «الغلط مش دايمًا في الكلام… ساعات في السكوت.»
اقترب خطوة، ثم توقف. ترك المسافة كما هي.
— «أنا مش جاي آخد حاجة مش ليا، ولا أهدّ اللي في حياتك. بس أنا كمان مش هكذب وأقول إن اللي حاسه ده ما حصلش.»
رفعت عينيها إليه.
— «وأنا؟»
قالتها بصوت خافت، لكنه كان مشحونًا.
— «وأنا المفروض أعمل إيه؟»
تنفّس بعمق.
— «تختاري.»
ضحكت ضحكة قصيرة، موجوعة.
— «الاختيار ده متأخر قوي.»
— «لا.»
قالها بثبات.
— «لسه بدري… بس مش للهرب.»
صمتا.
ثم قالت، كأنها تحسم شيئًا بداخلها:
— «أنا مش هقابلك تاني لو الموضوع خرج عن الشغل.»
أومأ ببطء.
— «تمام.»
لفّت لتغادر.
لكن صوته أوقفها عند الباب:
— «بس قبل ما تمشي… خليكي عارفة إن في رجوع، وفي رجوع. في رجوع للأمان، وفي رجوع للنفس.»
لم ترد.
فتحت الباب وخرجت.
في الخارج، كان الممر طويلًا وباردًا. مشت بخطوات سريعة، قلبها يخفق بقوة. لم تبكِ. لم تنهَر. لكنها شعرت أن شيئًا ما انكسر… أو ربما انكشف.
في البيت، كان يوسف ينتظرها كعادته.
جلسا معًا. تحدثا. ضحكا قليلًا.
لكن مريم كانت تشعر أنها تشاهد حياتها من خلف زجاج.
وفي منتصف الليل، حين نام يوسف، فتحت عينيها في الظلام.
مدّت يدها ببطء نحو الهاتف.
ترددت.
ثم فتحته.
لم يكن هناك اتصال جديد.
لكن كان هناك إحساس واضح، ثقيل، لا يمكن إنكاره:
أن الطريقين اللذين التقيا… لم ينفصلا بعد.
وفي مكان آخر، كان آدم يجلس وحده، ينظر إلى المدينة، ويهمس:
— «واضح إن الفصل الجاي مش هيكون سهل على حد.»
وهنا…
توقّف كل شيء.
ليس لأن الحكاية انتهت،
بل لأن القرار اقترب،
والقلوب حين تقترب من القرار
تخاف أكثر مما تحب.
