![]() |
رواية ذنوب علي طاولة الغفران الجزء الثاني ( هل من سبيل للغفران) الفصل الثالث بقلم نورهان ال عشري
السبيل الثالث
عجبًا للحياة حين تسخر منا، وتدور بنا في دوائر مفرغة، نظنّ مع كل خطوة فيها أننا تخطّينا، ولكن حين نرتطم بصخرة اللقاء نجد أننا ما غادرنا نقطة البداية قط.
فكلّ شيء لا يزال كما تركناه، حتى وإن تراكم عليه غبار الحنين! ولكن الشعور نفسه، واللهفة ذاتها، وحتى النبضات لا تزال تعزف سيمفونية واحدة بعنوان: «أحتاجك».
وإن كانت هذه المرة مُثقلة بالألم، وبالرفض لهذا الاحتياج وتلك المشاعر، إلا أنها لا تنفك تستبدّ بنا، وتفرض وجودها بقوة تجعلنا نلجأ إلى التلصص من نافذة الصمت، والمراقبة من بعيد دون اقتراب.
لا نحن نقترب لننجو، ولا نبتعد لنرتاح؛ فالعقل يأبى الاستسلام والنفس تشد رحالها نحو الرجوع، ووحده القلب يقع فريسةً بين هذه الحيرة.
وطبقًا لفلسفة الحب، لا يُعدّ البقاء دليلًا قويًا على التواجد، وليست العودة إلى بعض الأشخاص رجوعًا؛ فهناك من نعانقهم وقلوبنا لم تلحظ حتى وجودهم، وهناك من نهرب بكل الطرق الممكنة لننجو منهم، ولكن قلوبنا لا تزال عالقة بين نسيم ذكراهم.
أحمقٌ من ظنّ أن الهرب نجاة، فأدرك حقيقة أن البقاء ولو كان موجعًا، فهذا الوجع هو الضريبة التي يدفعها مقابل الحياة.
نورهان العشري ✍️
🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁
ـ خالد بيه ممكن اخد من وقتك دقايق؟!
هكذا تحدث رؤوف وهو يقف أمام خالد الذي كانت عينيه تبرقان من شدة الغضب الذي جعل لهجته جافة حين قال:
ـ أكيد ممكن. دا أنت طلعت واخد حيز كبير من حياتنا الفترة اللي فاتت، وأنا مكنتش واخد بالي.
جلس رؤوف أمام خالد وهو يحاول ابتلاع غضبه من هذا الموقف المُحرج الذي زُج به دون أن يدري ليتجاهل سخرية خالد قائلاً بجمود:
ـ في سوء تفاهم حصل و كنت جاي اوضحهولك.
خالد باختصار:
ـ سامعك.
تحمحم رؤوف قبل أن يبدأ من نقطة انطلاق قوية حين قال بصدق:
ـ طبعًا انا بعتذر عن اللي حصل بين آسيا و كمال بسببي، و بعتذر اكتر عشان اللي اتسبب في العبث دا كله كانت اخت حضرتك. لإني لا ادتلها التسجيل بتاع آسيا ولا حتى عرفتها بوجوده، و اتفاجئت أنها أخدته من موبايلي من غير ما اعرف.
خالد بقسوة:
ـ ميرهان غلطها كبير، دا شيء مفروغ منه، لكن الغلط بدأ من عند الراجل اللي مفروض بنت عمه دي عرضه، و تخصه، ولكنه راح سجلها بمنتهى الوقاحة.
أوشك رؤوف على الحديث، ولكن خالد لم يُعطه الفرصة لذلك إذ تابع بحدة:
ـ و طبعًا مهما كانت أسبابك انك تعمل دا، فالنية السيئة موجودة، ودا شيء منقدرش ننكره.
رؤوف بنبرة يجيش بها الندم:
ـ هتجاوز من غلطك في حقي، عشان أنت فعلّا عندك حق.
خالد بجمود:
ـ كدا نبقى احنا بدأنا صح. اتفضل كمل.
رؤوف بنبرة لا تخلو من الألم:
ـ أنا فعلًا حبيت آسيا، و اتمنيت أنها تكون مراتي، و يمكن هي بادلتني نفس المشاعر لكنها مصرحتش بأي حاجة، والحق يتقال هي معشمتنيش بحاجة. لكن أنا أكتر واحد عارف آسيا كويس. آسيا طموحة لدرجة اني كنت أحيانًا بخاف عليها من طموحها دا، وعايزة تكبر وتحقق ذاتها، و بصراحة اللي كان بيدفعها لدا أكتر التنمر و البهدلة اللي شافتهم على إيد ميرهان و هايدي. معرفش إذا كنت تعرف دا ولا لا. بس هما مسابوش حاجة وحشة معملوهاش فيها.
كان رأسه يكاد ينفجر من شدة الغضب، وهو يتذكر ما قصته عليه آسيا من أفعالهم الحقيرة، ولكنه أعطى الوقت الكافي لرؤوف لكي يُكمل حديثه ليتابع الأخير قائلًا:
ـ منكرش إني حسيت في نار جوايا لما عرفت أن في بينها و بين كمال حاجة، و طبيعي اني وقتها افكر أنه وسيلة عشان تحقق ذاتها، و بالمرة تنتقم منهم. يمكن كنت غلط. بس كنت مجروح أوي، والإنسان لما بيتجرح بالشكل دا مبيفكرش بشكل سليم، ودا غلط كبير للأسف انا وقعت فيه.
اومأ خالد برأسه، وهو يتخذ مقعد الصمت لكي يُتابع رؤوف حديثه ليستطرد الأخير قائلًا:
ـ في الفترة دي ميرهان ظهرت و أنا أسف في اللي هقوله. بدأت تتقرب مني، و أنا لا رفضت دا، ولا قبلته، مكنش في بالي غير حاجه واحدة بس. أن آسيا مش هتكون ليا. بس أقسملك بالله انا ما فكرت أأذيها لحظة، و الدليل على كلامي أن ميرهان قبل الفرح جت جابتلي مجموعة صور لوالدة آسيا و هي بلبس الخدم، و بتخدم على الضيوف في حفلاتكوا، و قالتلي أن اختها الكبيرة طلبت منها أنها تنشر دي على مواقع التواصل الاجتماعي عشان تبقى فضيحة والفرح ميكملش، وأنا اللي منعتهم.
في هذه اللحظة أصبحت عيني خالد و كأنها مرآة للجحيم من فرط ما يشعر به من غضب، فالأمر تفاقم بشكل كبير للحد الذي لم يتخيله عقله، ليتابع رؤوف قائلًا:
ـ أنا عارف انك مستغرب من كلامي. بس دا فعلاً اللي حصل، و الصور دي لسه معايا. مقدرتش اني اعرض آسيا و أشجان للموقف دا أبدًا
خالد بجفاء:
ـ ولما انت بتفكر كدا. ليه روحت سجلت لآسيا يوم فرحها!
احنى رأسه يحاول تجاهل الألم الذي يجيش به صدره قبل أن يقول بنبرة مُتحشرجة:
ـ أنا كنت مضطر اني اروح الفرح عشان عمي ميزعلش، بس يوم الفرح الصبح مرات عمي جرحتني بالكلام و خصوصًا أنها كانت عارفة مشاعري تجاه آسيا و كانت مرحبة جدًا دلوقتي بعد ما آسيا لقيت حد أحسن بتبعدني عن طريقهم بالقسوة دي! هي مش وحشة ولا سيئة لكن مش طيبة. حرفيًا كلامها خلاني أحس أني كاره نفسي و كل الناس. مقدرتش امنع شيطاني اللي قالي روح واجهها بحقيقتهم.
اهتزت جفونه بالعبرات، ولكنه قاومها وهو يتابع بألم:
ـ و روحت فعلًا و اتكلمت معاها. عاتبتها، وهي كانت بتسمع، و عينيها كإنها بتقولي اسكت. مبقاش ليه لزوم للكلام دا، وانا كنت عارف ان كلامي مالوش لزوم، بس غصب عني كنت فعلًا مجروح، و لقيتني بسألها لو كان كمال ظروفه وحشة و مش كمال بيه الوتيدي كنتِ هتوافقي تتجوزيه!
ارتسمت ابتسامة مليئة بالوجع فوق ملامحه حين قال:
ـ و فاجئتني لما قالتلي انها فعلًا بتحب كمال، وأنها هتختاره في كل الأحوال. مهما كانت ظروفه، و دا تحديدًا الجزء اللي ميرهان قصته من الريكورد اللي سمعته لكمال.
أصابه الصداع كالفيروس الذي يهاجم جهاز المناعة بشراسة مثلما كان يهاجم رأسه من كثرة ما استمع اليوم إلى أفعال شقيقاته النكراء، ولكنه حاول التغلب على ألمه حين قال بفظاظة:
ـ و أيه اللي عرف ميرهان بموضوع التسجيل!
أجابه رؤوف قائلاً:
ـ بعد ما اتجوزت آسيا كنت أنا بدور على مكان اعمله مكتب هندسي، كنت ناوي احط طاقتي كلها في الشغل، و بالصدفة قولت كدا قدام ميرهان، و بعدها بفترة لقيتها جابتلي مكتب في مكان راقي جداً وقالتلي أنها عايزة تشاركني، و أنا في الأول رفضت لكن هي أصرت و حسيت اني جرحتها و هي كانت عايزة تساعدني، و بعد جدال طويل اتشاركنا، و آسيا عرفت، وطبعًا اتصدمت عشان أنا عارف كل اللي عملته ميرهان فيها زمان.
تحمحم بخشونة قبل أن يُكمل:
ـ اتفاجئت أنها جيالي المكتب، و بتعاتبني، و أنا بصراحة ضايقتها بالكلام، و كأني برد اعتباري و اتخانقنا، و مشيت، بعد ما مشيت قعدت اسمع التسجيل للمرة المليون، وانا بعيد و أزيد في جملتها أنها بتحب كمال.
ابتسامة ساخرة مليئة بالوجع اعتلت ثغره قبل أن يتابع:
ـ تقريبًا أنا مدين للجملة دي بحاجات كتير. كل ما كنت بسمعها كنت بتحفز أكتر اني اشتغل و أحقق نفسي، على قد ما كانت بتوجعني على قد ما كانت بتخليني عايز انحت في الصخر عشان اقدر اوصل، بعدها بمفيش لقيت ميرهان داخله المكتب، قفلت التسجيل فورًا و دخلت اغسل وشي، و في الوقت دا هي اخدته، و سمعته لكمال بعد ما قصت منه أهم حاجة، وحصل اللي حصل.
بالرغم من أنه يمقته كونه تسبب بشكل أو بآخر في إيذاء شقيقه، ولكنه لم يستطِع تجاهل شعوره بالاحترام تجاهه كونه جاء ليخبره بما حدث لذا قال بنبرة خشنة:
ـ بغض النظر عن غلطك الكبير، و اللي أدى لكارثة بس على الأقل أنت مش جبان، و مهربتش. بالعكس جيت و حكيت اللي حصل.
رؤوف بنبرة مُتحشرجة:
ـ مكنش ينفع أن آسيا بتتعرض لإتهام زي دا بسببي و موضحش اللي حصل.
تحمحم خالد قبل أن يقول بجمود:
ـ و عشان كدا انا مش هظلمك. طبعًا شراكتك مع ميرهان انتهت خلاص.
ـ أنا عارف دا من غير ما تقوله، و ناوي اسلم المكتب، و ارجعلها فلوسها اللي دفعتها.
خالد بجفاء:
ـ وأنا ميرضنيش دا. أنت شاب في أول حياتك، ودا مشروعك اللي حلمت بيه، وانا مش ههده. أنت هتفضل زي ما انت. مجرد تعديل بسيط. ان الفلوس اللي خدتها من أختي تقدر تعتبرها دين تسدده أول ما ربنا يكرمك. في ظروف تانية كان ممكن أقولك اني هشاركك. لكن مقدرش احط إيدي في إيد حد اتسبب في تدمير حياة أخويا.
تفاجيء رؤوف من شهامة هذا الرجل على الرغم من أن جملته الأخيرة كان بها تقريع لم يفته، ولكنه للأسف لن يستطيع قبول عرضه لذا قال بامتنان:
ـ أنا شاكر ليك ذوقك و شهامتك. بس أنا مش هقدر اقبل فلوس متلوثه بدموع آسيا. خلينا نتكلم بصراحة. ميرهان معملتش كل دا ولا شاركتني. غير عشان تكسر آسيا، وأنا مش هقبل أبدًا اني ابني حياتي على حساب حياتها.
تفهم خالد وجهة نظره، وقد أقر داخليًا بأن جميعهم ما هم إلا فرائس لكيد النساء الذي من شأنه أن يهدم حياة بأكملها لذا قال بجمود:
ـ اللي تشوفه. بس ياريت تبعتلي التسجيل دا. أنا أكيد هحتاجه.
أومأ رؤوف برأسه، وقام بإرساله إلى خالد الذي قال بنبرة خشنة:
ـ للأسف مش هقدر ألومك، كونك جيت هنا و حكيت اللي حصل و بعتلي التسجيل، فدا شيء يُحسبلك. لكن ياريت تبعد عن حياة آسيا و ميرهان، و كفاية أوي العك اللي حصل.
رؤوف باختصار:
ـ دا اللي ناوي اعمله. عن اذنك، و شكرًا أنك سمعتني.
غادر رؤوف ولكنه لم يستطِع الراحة ولو قليلًا، فقد وجد عز الدين يقتحم مكتبه وهو يهتف بملامح مُكفهرة:
ـ صحيح اللي قولته بخصوص نسمة اختي!
صمت خالد يسترجع هذه الذكرى المؤلمة
عودة إلى وقتٍ سابق
و تذكر ذلك اليوم الذي استنجدت به قائلة بلوعة:
ـ معنديش حد أروحله يا خالد، و مش عايزة ارجع تاني. أنا بكرة البيت دا وكل الناس اللي فيه. و مش طالبه منك غير جاحتين.
خالد باستفهام:
ـ أيه هما!
نسمة بنبرة يختلط بها التوسل:
ـ عايزاك تبقى وأنا عروسة. مش عايزة صابر يشوفني مجرد واحدة أهلها رموها.
خالد بغضب:
ـ بس أنتِ مش مضطرة لدا. تعالي اقعدي معانا لحد ما يعرفوا قيمتك.
نسمة بلهفة:
ـ أرجوك لا. هيموتوني يا خالد يا اما أنا هموت نفسي. ارجوك ساعدني.
خالد بإذعان:
ـ حاضر، و أيه السبب التاني ؟
نسمة بتوسل:
ـ تحلف يمين الله انك مش هتقول لعز الدين انك كنت وكيلي ولا حتى تعرف حاجة عني.
ـ أنتِ مجنونة يا نسمة! عيزاهم يشوفوكي واحدة زبالة هربت من واحد من غير ما يعرفوا حتى انك اتجوزتيه.
نسمة بنبرة ساخرة يشوبها المرارة:
ـ و مين قالك أنهم مش شايفني كدا حتى وانا قافلة أوضتي عليا. يا خالد عز ضربني وكان هيموتني عشان بس نبيلة قالتله إني كنت بتمشى في الجنينة قدام الحرس. دا سبني بأبشع الألفاظ. خليه يفكر اني حطيت رأسه في الطين. دا الانتقام الوحيد اللي ممكن انتقمه منه و من ماما على كل اللي عملوه فيا . أرجوك نفذلي طلباتي.
عودة إلى الوقت الحالي
ـ أيوا صح.
عز الدين بذهول:
ـ ازاي! ازاي تعمل فينا كدا!
خالد بقسوة:
ـ ما تسأل السؤال دا لنفسك! ازاي انت تعمل فيها اللي يوصلها لكدا!
عز الدين بانفعال:
ـ أنا كنت بربيها، و أنت بدل ما تجيبها من شعرها و ترميها تحت رجلينا روحت و طاوعتها على الغلط!
خالد بجفاء:
ـ و أيه الغلط انا تتجوز على سنة الله ورسوله!
صرخ عز باهتياج:
ـ اللي عملته دا مش هنساهولك، و على فكرة انا بدل ما كنت بكرهها قيراط دلوقتي بكررها أربعة و عشرين..
خالد بقسوة:
ـ أهو دا تحديدًا اللي مخلانيش أرجعها عن قرارها. لأن بصراحة هي كان عندها حق. انتوا معندكوش دين ولا رحمة، وانا عمري ما كنت هقدر اتحمل ذنب اني ارجعها ليكوا تاني.
عز بوعيد:
ـ هتندم يا خالد.
خالد بفظاظة:
ـ مفتكرش انك بتهددني أو حتى بتخوفني. معلش بقى أصل اللي ممشياك بتيجي عندي و تفرمل.
كظم غيظه و تراجع ينوي الخروج لتوقفه كلمات خالد الغامضة:
ـ خلي بالك أن الماضي منتهاش على كدا. لسه في كتير متخبي، هتعرفه لما تدفع ضريبته!
رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ♥️
★★★★★★
كانت كالفريسة التي وقعت بين شباك ذئاب لا تعرف الرحمة، هكذا شعرت حين قص عليها رحيم أفعال والدها التي تستوجب القبض عليه لتسقط جالسه على المقعد خلفها وهي تقول بنبرة لا روح فيها:
ـ يا مُري! دا انتوا مش بشر! دا الحيوانات عِنديها رحمة مش عندكوا!
حاول رحيم تهدئتها قائلًا:
ـ إني في نظرك معنديش رحمة. عشان أنتِ مش واجفة مكاني، و لا شايفه اللي أني شفته. لكن في يوم لما توبجى قادرة تسمعيني. هتعرفي اني ايه اللي وصلني للحالة دي، و يمكن كمان تزعلي عشاني.
نجاة بصدمة نتج عنها استنكارًا كبير تجلى في نبرتها حين قالت:
ـ ازعل علشانك! ده في شرع مين يا عمدة! ابجى اني المدبوحة، و ازعل عشان اللي دبحني!
اقترب رحيم يمسك أكتافها يهزها بعُنف وهو يقول بنبرة مُلتاعة:
ـ مش يمكن أني ادبحت جبلك!
جذبت نفسها من بين ذراعيه وهي تهتف بشراسة من بين انهيارها:
ـ و أني ذنبي ايه؟ أذيتك في ايه؟ انا مأذتش حد في حياتي واصل. حتى ابوي اللي معرفوش عمري، و مجدراش اروحله. ما اوحش منك. أروح فيكوا فين أني! اللي زيي يروح فين وسطيكوا! يعيش چاركوا ازاي، و أنتوا كيف الوحوش!
قالت جملتها الأخيرة وهي تصرخ ألمًا تراشق بصدره كالسهام، ليُقرر وضع حدًا لمعاناتها و معاناته بعد أن اختار عقابه بنفسه:
ـ إني هجولك يا نچاة. أنتِ هتجعدي اهنه. ست الدار دي، و مرت العمدة جدام الناس كلاتها. لكن بيني وبينك عمري ما هجرب عليكِ، ولا حتى هتعرضلك. لحد ما تاچي أنتِ، و تجوليلي أنك ريداني.
ابتسامة ساخرة لونت ملامحها لتهتف بمرارة:
ـ كيف الغزالة تريد صيادها يا عمدة!
رحيم بنبرة يعج بها الألم:
ـ يمكن لما تعرف أنه اتغدر بيه زيه زيها تجدر تسامحه!
كان حديثه يحمل معانيٍ كثيرة استفزت فضولها ولكن كان قلبها يكتظ بالألم الذي جعلها تعزف عن السؤال، لتقول بجفاء:
ـ موافجة. بس جبل اي حاچة. عايزة اعرِف طريق أمي.
رغمّا عنه عمرته السعادة كونها لم تغادره، ولكن هذا الشرط كان تعجيزيًا بالنسبة إليه لذا قال بحدة:
ـ قولتلك معرِفش. رماح الكلب هو اللي تاواها إني معرِفش مكانها.
في هذه الأثناء رن هاتف رحيم ليجد الضابط محمد يهاتفه، فأخذ الهاتف بعيدًا وهو يُجيب، و سرعان ما برقت عينيه من فرط الصدمة حين سمع حديثه الغاضب:
ـ بدرية برأت رماح، واتنازلت عن المحضر اللي رفعه زناتي ضده, وقالت إنه مكنش خاطفها ولا معذبها ولا حاجة، و رماح دلوقتي خرج يا عمدة!
اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى واللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ♥️
★★★★★★★★
ـ يا ميلة بختك في عيالك يا رضا. يا حوستك السودا يا رضا. كان مستخبيلنا فين دا ياربي!
هكذا أخذت رضا تولول وهي تتوجه إلى غرفة آسيا التي كانت تساندها أشجان لتستلقي فوق مخدعها بتعب تضاعف حين سمعت صوت والدتها، لتربت أشجان فوق كتفها بلطف قبل أن تنظر إلى شروق قائلة بلهفة:
ـ خليكِ جنبها يا شروق لحد ما ارجع.
شروق بهدوء:
ـ متقلقيش عليها.
هرولت أشجان إلى الخارج للحد من عويل رضا إذا قالت بحدة طفيفة:
ـ في أيه يا ماما؟ بتولولي كدا ليه؟!
رضا بنحيب:
ـ كدا بردو يا أشجان. تضحي على أمك و تلبسيها العمة! بقى أختك تطلق و ترقد في المستشفى و متعرفنيش! اعرف من المخفية مرات عمك!
اكتظت ملامحها بالغضب الذي تجلى في نبرتها حين قالت:
ـ خلاص يا ماما. اللي حصل حصل، و قولت مخضكيش غير لما اطمن عليها الأول.
رضا بانفعال:
ـ تطمني عليها! تطمني عليها دا أيه! لا هي السنيورة ليها نفس تدلع بعد ما طفشت جوزها و خلته يطلقها! اقول ايه لابوكي! أقول أيه للناس! أودي وشي منهم فين؟
بهتت ملامح أشجان لثوان من الصدمة، و سرعان ما اغتمت ملامحها من حديث والدتها لتهتف بتقريع:
ـ ناس مين يا ماما اللي بتفكري فيهم! مش تطمني على بنتك اللي كانت بتموت الأول، و بعدين تبقي تفكري في الناس! و بعدين بابا راجل عاقل و عارف ربنا، وفاهم أن كل شيء قسمة و نصيب، وهي متفقتش مع كمال و أطلقوا فين الجريمة في كدا!
صاحت رضا مُعنفة:
ـ اتنيلي على خيبتك. ماهو مبوظكوش غير ابوكي. قسمة ايه و نصيب أي! دي عيلة خايبة. بعد ما بقت هانم والكل بيعملها ألف حساب ضيعت الجدع من إيدها، و بكرة لما الناس تعرف هتبقى سيرتها على كل لسان!
ضاقت ذرعًا من هذا التفكير العقيم والذي ضيع منها أزهى سنوات عمرها لتهتف بانفعال:
ـ كفاية بقى تفكيرك اللي هيضيعنا دا. ما تولع الناس. محدش له عندنا حاجة..
صرخت رضا بغضب:
ـ اخرسي. أنا تفكيري اللي مضيعكوا ولا انتوا اللي بنات خايبة قليلة الرباية. كل واحدة فيكوا ليها قصة شكل، أن كنتِ أنتِ ولا هي انيل من بعض. الواحدة اللي متحافظش على جوزها و بيتها تبقى عايزة قطم رقبتها. اوعي من وشي أما اروح أجرجرها من شعرها.
حاولت أشجان منع رضا من الدلوف إلى غرفة آسيا ولكنها دلفت إلى الداخل وهي تناظر آسيا بغضب لتقف أمامها أشجان وهي تهتف للمرة الأولى أمام والدتها بنبرة صارخة:
ـ ارحمينا بقى حرام عليكِ. عايزة تعملي فينا أي! هتستني لما واحدة فينا تجيلك ميته؟ بسبب ضيعت أحلى سنين من عمري مع إنسان حقير وراني العذاب ألوان. كان نفسي مرة تطبطبي عليا و تاخدي حقي لكن محدش كسر ضهري غيرك!
صفعة قوية وقعت على خد أشجان أخرستها أما طغيان رضا التي قالت بصراخ:
ـ اخرسي. قطع لسانك. دانا اللي اتقطم ضهري عشان اعرف اربيكوا، و دي آخرتها. دا الواحد لو ربى كلب كان نفعه عنكوا.
صرخت آسيا بصدمة:
ـ ماما.
و كذلك شروق بذهول:
ـ بتعملي أيه يا طنط؟!
برقت عيني أشجان وهي تنظر إلى والدتها غير مصدقة لهذه القسوة التي تنثرها كالأشواك في طريقهم، ولكن حتى نظرتها لم تفهمها، فقامت آسيا بالتحامل على جسدها لتنصب عودها الواهن و تتقدم لتحتضن أشجان المذهولة من الخلف وهي تهتف بنبرة تئن وجعًا:
ـ حرام عليكِ ليه كدا يا ماما؟!
رضا بحدة:
ـ متستعجليش يا قلب أمك. دورك جاي. قوليلي يا بنت عزام جوزك طلقك ليه؟
لم تعرف كيف ستخبرها بما حدث، و هي تعلم تمام العلم أنها لن تفهم شيء من ما تشعر به أبدًا لذا اختصرت الأمر قائلة:
ـ متفقناش سوى.
تبلور الجنون في نظرات رضا التي اقتربت تهتف بغضب:
ـ بت أنتِ الكلام دا ميتقاليش. أحنا يا روح أمك مش ولاد ذوات من اللي كنتِ معشراهم. احنا ناس عندنا أصول و العوج دا مش هينفع معايا. انطقي قولي حصل أي خلاه يرميكي الرمية دي!
كانت الإهانة هذه المرة قاتلة بل و أبشع ما تعرضت له في حياتها، فمن المفترض أن تلقي بنفسها بين أحضانها تشكو إليها مُر ألمها تقف أمامها كالجلاد، دون أن يرف لها جفنًا من الرحمة، لم تتعلم شيء مما حدث لشقيقتها لذا استجمعت طاقتها المهدورة و اقتربت منها و الشماتة و التشفي يغلف نبرتها حين قالت:
ـ عرف اني كنت بحب رؤوف قبله، واني روحتله المكتب، وعشان كدا طلقني.
تعالت الصيحات المستنكرة من فم كُلًا من شروق و أشجان من حديثها المُجتز، ولكنها كانت تشتهي الموت في هذه اللحظة، فلم تهرب حين رأت الجنون يتبلور في عينه رضا التي هجمت عليها بالصفعات المتتالية وهي تصرخ باحتقار:
ـ أه يا رخيصة يا كل…. دانا هقتـ.لك و اشرب من د.مك. وطيتي راسنا في التراب. وديني لهخلص عليكِ.
كانت تصيح كالمجنونة و هي تمسك خصلات آسيا بين يديها حتى كادت أن تقتلعها وهي تمطرها بكل أنواع السُباب، بينما حاولت كُلًا من أشجان و شروق تخليصها من بين يدي والدتها، ولكن المثير للدهشة أنها لم تكن تقاوم بل و كأن ما يحدث هو حقّا ما أرادته، فالحياة الآن تشبه استراحة في الجحيم. ستظل تتعذب بها إلى أن تصعد روحها إلى بارئها.
تجمدت فجأة يد رضا المـمسكة بخصلات آسيا وهي ترى الدماء تنبثق من فمها، بينما الأخيرة تناظرها بتشفي تضاعف حين شاهدت نظراتها المذعورة لتهتف كمن مسه الجنون:
ـ وقفتي ليه؟ كملي. كملي لسه فاضل حاجة بسيطة، و تنجحي في اللي أنتِ عايزاه.
كان جسد رضا يرتجف لتُتابع آسيا بابتسامة مرعبة:
ـ ماهو أنتِ مش هترتاحي غير لما تكوني سبب موت واحدة فينا. وقتها هتسيبي التانية تعيش في سلام.
ارتد جسد رضا إلى الخلف و العبرات تتساقط من مقلتيها لتهتف آسيا تحسها على استكمال أفعالها:
ـ تعالي قربي. بعدتي ليه؟ خوفتي! لا متخافيش محدش هيقول انك أنتِ اللي موتيني. بس ممكن يقولوا انك قهرتيني لحد ما موت. عشان السجن و كدا. أنا عايزة ضميرك هو اللي يعاقبك مش حد تاني.
صرخت أشجان بقهر وهي تحتضن شقيقتها:
ـ كفاية بقى. اسكتي.
أخذت تمحي هذه الدماء التي تلوث فمها بينما شروق أتت بالطبيب في الحال ليحملوا جسدها الواهن ليمددوها على السرير ليأمرهم الطبيب بالخروج من الغرفة.
مرت دقائق كانت مرعبة على الجميع و خاصةً رضا التي خرجت كلماتها متقطعة، وكأن الحروف تهرب من فوق شفاهها:
ـ هي أختك مالها! الدم. يعني. اللي. نزل من بقها. هي متعورة!
ناظرتها أشجان بغضب وهي تتجاهل إجابتها ليتولى الطبيب ذلك حين خرجمم الغرفة، و على وجهه إمارات الغضب الذي تجلى في نبرته حين قال:
ـ افتكر اني قولت لحضرتك أنها مش لازم تتعرض أبدًا لأي ضغط عصبي الفترة دي، وان دا هيأخر حالتها أكتر.
وقعت الكلمات وقوع الصاعقة فوق أذن رضا التي سبقت أشجان قائلة بذُعر:
ـ بنتي فيها أيه يا دكتور!
ـ بنتك يا حاجة عندها قرحة في المعدة، و الموضوع بدل وصل لنزيف يبقى مينفعش نستهون بيه.
شهقت رضا بصدمة تجلت في نبرتها حين قالت:
ـ يا قلبي يا بنتي! طب هي حالتها خطيرة! يعني هتموت!
الطبيب بتوضيح:
ـ كلنا هنموت يا حاجة. تعددت الأسباب والموت واحد، و بالنسبة لحالتها فهي طبعًا خطيرة بدل وصلت للنزيف، لكن مع العلاج و اتباع التعليمات الحالة هتتحسن بإذن الله.
رضا بلهفة:
ـ طب و اللي جالها دا سببه ايه؟
ـ في أسباب كتير ممكن يكون كان عندها جرثومة معدة و متعالجتش صح، و لما اتعرضت لتوتر و ضغط عصبي شديد عملها القرحة، و ممكن تكون بتتبع طريقة أكل غلط لمدة طويلة، أسبابها كتير، واحنا بنعملها التحاليل و الفحوصات اللازمة عشان نفهم ايه السبب!
شروق باستفهام:
ـ يعني الضغط العصبي و التوتر هما السبب في كدا يا دكتور!
الطبيب بتوضيح:
ـ مش سبب مباشر لحدوث القرحة بس عامل مساعد قوي، و خصوصا أن النزيف جه فجأة بدون أي مقدمات. عمومًا الفترة الجاية دي نحاول منعرضهاش لأي ضغط، و نتبع نظام غذائي سليم و كمان في علاج هتمشي عليه. نعرف السبب المباشر، و هنبتدي فورًا بالعلاج.
استأذن الطبيب، فأخذت أشجان تناظره والدتها بلون لتحاول الأخيرة ايجاد كلمات يمكنها أن تبرر أفعالها الخرقاء ولكنها لم تجد، فالأمر لم يكن تصرف عرضي بل اعوجاج في الفكر جعلها تؤذي حتى اقرب الناس إليها.
ناظرت أشجان باعتذار لم تعبر عنه، و توجهت تنوي المغادرة، لتهتف أشجان بحدة:
ـ على فكرة آسيا مخنتش كمال، واللي حصل بينهم دا سوء تفاهم و أن شاء الله هيتحل. ابقي دوري بقى على عذر تبرري بيه اللي عملتيه فيها.
أنهت جملتها و اندفعت إلى الداخل و خلفها شروق ليطمئنوا على حالة آسيا التي كانت نائمة، فاتخذت كل واحدة مقعدًا لتشرد بينها وبين نفسها فيما تحمله من أثقال تهلك البدن و تشيخ لها الروح، لتقطع شروق الصمت الدائر قائلة بجمود:
ـ على فكرة انا أطلقت من عمر.
شهقت أشجان بصدمة تجلت في نبرتها حين قالت:
ـ بتقولي أيه يا شروق!
شروق باختصار:
ـ بقولك اللي حصل.
ـ طب ليه؟ و ازاي؟
شروق بنبرة هادئة رغمًا عن تماوج الألم بصدرها:
ـ عشان مكناش ننفع لبعض من الأول، وقبل ما تقولي أي حاجة. أنا كدا مرتاحه، و على فكرة خالد بيه عارف.
أشجان بذهول:
ـ خالد عارف!
اومأت شروق برأسها وهي تتذكر ما حدث قبل عدة أيام:
عودة إلى الوقت الحالي
ـ تحبي أوديكوا على فين؟!
هكذا تحدث خالد وهو ينظر إلى شروق الجالسة بجانبه، والتي كانت ضائعة لا تعرف ماذا عليها أن تفعل! لتخرج الكلمات من فمها غير مرتبة:
ـ ممكن فندق. أو. لو في مكان بيأجر شقق مفروشة حضرتك تعرفه.
ناظرها خالد بشفقة، وهو يتذكر كم كانت نسمة جميلة و هادئة تشبه شروق كثيرًا لذا استفهم بنبرة هادئة:
ـ أنتِ معندكيش مكان تروحيه أنتِ و جميلة صح!
لأول مرة تعري ضعفها أمام شخص غريب عنها، فقد انفرط عقد الدموع التي فاضت به عينيها لتهتف بنبرة جريحة:
ـ لا عندي مكان اروحه ولا عندي حد ألجأله، و كل اللي عايزاه مكان محدش فيهم يعرفوا عشان اقدر اقف على رجلي من تاني.
خالد بصدمة:
ـ قد كدا أتأذيتي منهم!
شروق بنبرة تئن وجعًا:
ـ أذوني بس! أنا انكسرت هنا مليون حتة، و مش عارفة هقدر اجمع اللي انكسر مني تاني ولا لا!
التفت خالد ناظرًا إلى الجهة الأخرى يشعر بألم قوي يشق قلبه من الداخل، وهو يرى هذا الوجع في عيني تلك الفتاة اليتيمة، و شقيقتها التي تبكي في الخلف بصمت، و الأكثر من مؤذي بالنسبة إليه أن من فعل بها هذا الأمر هو أقرب المقربين إليه!
كانت تظن بأنه سيتخلى عنها، في خضم كل هذه النزاعات التي يمر بها لتهتف بخفوت وهي تكفكف عبراتها:
ـ أنا عارفة أن حضرتك أكيد مشغول. ياريت بس توديني وسط البلد، وانا هدور بنفسي…
قاطعتها نظرات خالد الحادة، و كذلك نبرته حين قال:
ـ متخيلة اني ممكن أسيب بنات نسمة يتبهدلوا كدا! أنا هوديكوا على أكتر مكان ممكن تحسي فيه بالأمان طول حياتك.
كان هناك الكثير من الاستفهامات التي تتبلور في عينيها ليقرر خالد إجابتها حين قال:
ـ عارف أنتِ بتسألي انا كنت فين من زمان؟ بس صدقيني دا كان قرار والدتك أنها تبعد عن أي حد في العيلة، و لما تعبت و بدأت تبعت لجدتك كنت أنا في ملكوت تاني. لا شايف و لا سامع ولا عارف حد.
كانت تعلم انه يشير إلى موت زوجته لذا لم تُطيل في الأمر بل قالت بامتنان:
ـ دا نصيب، و شكرًا أنك مش هتتخلى عننا.
أومأ خالد برأسه قبل أن يقود السيارة إلى المكان الوحيد الآمن وسط غابة الذئاب التي يعيشون بها، ليتوقف أمام أحد المطاعم الجميلة رغم بساطته، و التفت إليهم قائلاً باختصار:
ـ استنوني هنا.
توجه إلى حيث تجلس سوزان التي تبلور الحب في نظرتها و نبرتها حين قالت:
ـ أيه المفاجأة الحلوة دي! مقولتش يعني انك جاي! و فين أشجان؟!
خالد بنبرة مُغتمة:
ـ هحكيلك بعدين. المهم. الشقة اللي كانت أشجان ساكنه فيها لسه موجودة!
سوزان بلهفة:
ـ أيوا طبعًا هأجر شقتك من غير ما اقولك! ليه يا خالد؟!
أشار خالد إلى السيارة وهو يقول بنبرة مُشجبة:
ـ في العربية معايا بنتين يتامى. والدتهم قريبتي. شافوا بهدلة و مرمطة محدش شافها، و لما ضاقت بيا و بيهم الدنيا ملقتش مكان أأمن ولا أحن من هنا مكان عشان أجبهم فيه.
شعرت بسحب الحزن تتجمع في عينيه، ولكنه على عادته يتملص منها، ولكنه تخيم على ملامحه و نبرته لتهتف أشجان بحنو:
ـ أي حاجة من ريحتك أشيلها فوق دماغي. روح هاتهم.
خالد بامتنان:
ـ للمرة اللي مش عارف عددها بكون عاجز عن شكرك.
سوزان بحنو:
ـ للمرة اللي مش عارفة عددها بقولك انك ابني. بطل كلامك دا و ناديلي عليهم. أنا اصلا اتحمست أن هيكون ليا جيران جداد.
خالد بابتسامة صافية:
ـ هتحبيهم اوي. أنا واثق من دا.
ـ طب مش هتحكيلي حكايتهم؟!
خالد باختصار:
ـ اسمعيها منهم أحسن.
أشار خالد لشروق لتأتي، و كذلك جميلة لتترجل الفتاتان من السيارة و يتوجهن إلى داخل المطعم الذي كانت رائحته الطيبة تفوح في المكان بأكمله كانت رائحة الخبز الناضج تذكرها بوالدتها مليئة بالدفء الحنان وتفتح شهية المرأ على الحياة، و تثير بداخله احساسًا بالإنتماء و الأمان، وقد كان كل هذا يتبلور في هذه البسمة الصافية التي كانت تلون ثغر سوزان و نبرتها حين قالت:
ـ طول عمرك يا خالد بتيجي و جايبلي الخير معاك.
كانت جملة بسيطة ولكنها وقعها كان عظيماً على صدر شروق التي نبذتها كل الأماكن، و خسرت على كافة الأصعدة، فقط حاولت الظفر بفُاتها حتى تحاول لملمة الباقي منها، وقد شعرت سوزان بأن هذه الفتاة تكاد تسقط من شدة الوجع الذي تعج بها نظراتها لذا قالت بحنو:
ـ أنا سوزان، و دا مطعمي. مفتوح للحبايب، و الناس الحلوين اللي مبيعيطوش.
رغمًا عنها ابتسمت شروق على حديثها لتقول سوزان بترحاب:
ـ أيوا كدا اضحكي، و تعالي نتعرف وانا بفرجكوا على الشقة، و بالمرة احكيلكوا واحد صاحبنا كان ناقص يجيب كنبة و ينام قدام باب الشقة عشان الأميرة أشجان تحن عليه و تبصله ولو بصة واحدة.
نجحت في رسم الابتسامة على ملامح خالد التي جعدها الحزن، ولكن كان حنان هذه المرأة كبير مما جعله يعتبرها والدته التي حُرِم منها منذ زمن بعيد .
عودة إلى الوقت الحالي
ـ يعني خالد وداكوا عند سوزان. معقول مقاليش؟!
هكذا هتفت أشجان بذهول قابلته شروق بالامتنان:
ـ دي أحسن حاجة عملها فينا الست دي طيبة أوي، و بعدين أنتِ بتقولي مش عارفة تتلمي عليه من وقت اللي حصل. ربنا يكون في عونه
ـ يارب. على فكرة سوزان دي ملاك ماشي على الأرض. ياريت ماما كانت زيها ولا حتى ربع حنانها و تفهمها. كان زمان حاجات كتير اتغيرت..
هكذا تحدثت أشجان بنبرة مُشجبة لتحتضنها شروق بقوة وهي تقول بمواساة:
ـ معلش يا أشجان. كل واحد و طبعه، و الخالة رضا بتحبكوا بس هي طبعها صعب شوية.
أشجان بسخرية مريرة:
ـ ياريت على قد طبعها صعب! ماما بيفرق معاها الناس و كلامها اكتر مننا. يالا ربنا يهديها.
شروق باستفهام:
ـ قوليلي هي آسيا فعلًا رفضت تاخد الفلوس اللي كمال سابهالها!
أشجان بتعب:
ـ فعلًا، و بيني وبينك دا القرار الصح. بس المشكلة أن هي مينفعش تعيش مع ماما بالطريقة دي، و بابا كمان منعرفش رد فعله أيه لما يعرف باللي حصل، و مينفعش كمان تعيش في الفيلا. معرفش هتعمل ايه؟ انا خايفة عليها أوي.
صمتت شروق تفكر ثم لمعت برأسها فكرة جعلها تهتف باندفاع:
ـ بقولك ايه. ما تخلي آسيا تيجي تعيش معايا أنا و جميلة؟
أشجان بلهفة:
ـ تصدقي فكرة. منها نبعدها عن ماما فترة لحد ما ترتاح، ومنها أكون متطمنة عليها. و كمان سوزان أحسن حد ممكن أأتمنه عليها وهي في الحالة دي.
شروق بشجن:
ـ و اهو نبقى مع بعض و نتسند على بعض بدل ما كل واحدة فينا تقع لوحدها.
اقتربت أشجان تحتضنها وهي تقول بحنو:
ـ بعد الشر عنكوا من الوقوع. يارب ما أشوف فيكوا حاجة وحشة أبدًا
اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَبَرَّأُ مِنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي وَأَلْتَجِئُ إِلَى حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، اللَّهُمَّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي♥️
★★★★★★★★★
كانت تقف أمام الموقد تقوم بإعداد الطعام في انتظار ياسر الذي بدأ عمله منذ ثلاثة أيام في أكد المتاجر بقرية تجاور قريتهم، فقد كان صاحب هذا المتجر صديق قوي له وهو يعمل مع جابر، وقد تفهم رغبته في العمل دون الحاجة إلى أي تبرير، و قد ارتاحت كثيرًا حين باشر بالعمل حتى تستقر حياتهم.
طرق قوي على باب المنزل جعلها تتوجه إلى الخارج لمعرفة من الطارق لتتفاجيء حين وجدت صابرين التي كانت تناظرها بغضب تجلى في نبرتها حين قالت وهي تدفع الباب:
ـ دا اللي سمعته صح بقى! المحروس جابك من البيت الكبير و رماكي في مقلب الزبالة دا!
لم تكن تخطت ما حدث منذ أيام لتجد نفسها وجهًا لوجه مع والدتها والتي كانت تلومها بكل تجبر و قسوة لتحاول غنى كظم غيظها وهي تقول بجفاء:
ـ أنا مع جوزي منين ما يروح. سواء بيت كبير ولا عشة فراخ.
اهتاجت صابرين وهتفت بغضب:
ـ عشة فراخ في عينك يا بت أنتِ. أنتِ اتجننتي ولا جرى لعقلك حاجة! بقى بعد ما كنتِ هانم و عايشة في عز وهنا. جاية تترميلي هنا و تقولي انا مع جوزي منين ما يكون!
غنى بذهول:
ـ هو دا اللي فارق معاكِ! دا أنتِ حتى مسألتنيش ايه اللي حصل ؟
صابرين بغضب:
ـ يحصل زي ما يحصل. مش مشكلتي. دلوقتي الراجل دا اتفق معانا اتفاق، واحنا وافقنا نجوزك له على أساس انكوا هتقعدوا في البيت الكبير. ايه اللي جابك الخرابة دي!
كعادتها تمر من فوق جراحها دون أن تلحظ ألمها مما جعل غنى تهتف بانفعال:
ـ قولتلك أنا مكاني مع جوزي منين ما يروح، وبعدين الخرابة دي عندي احسن ألف مرة من أي مكان تاني.
سخرت صابرين قائلة:
ـ ياختي اتنيلي. مشتهية الفقر اوي كدا ليه؟ مشبعتيش منه! أنتِ ايه يا بت! الراحة بتهرب منك ليه؟ و القرف بيجري وراكِ بمنكاش!
لم تعد تحتمل حديثها، ولازالت كلمات هيام تطن برأسها لتهتف بانفعال:
ـ أنا حرة، و عاجبني حالي كدا. سبيني بقى و ارحميني.
اهتاج غضب صابرين أكثر لتهفت بحدة:
ـ نعم ياختي! أسيبك دا مين؟! دانا هاخدك من ايدك معايا و هتترزعي في بيت أبوكي لحد ما سبع البرومبة يجبلك بيت يليق بيكِ. هو فاكرنا أيه مختومين على قفانا! يالا قدامي.
إلى هنا… ولم تَعُد تحتمل.
فكيف لم تر هذا الخراب الداخلي الذي ينهشها؟
ألم تُؤلمها عيناها حين شاهدت كل هذا الدمار يجتاحها، خلية خلية؟ أي الأمهات هي؟ وبِئس الأمهات هي!
لم تكُن قسوتها صُراخ بل كلمات كالخناجر تقتل ببطء وهي تنظر في عينيها. لم تحاول تصحيح ما أفسدته بل تتابع ما بدأته بكل احترافيه.
كيف تقتل الحياة فيها وهي من تسببت في قدومها إلى هذه الحياة؟!
كان الوجع ابلغ من أن يسرد وأقوى من أن يُحتمل
فالمجروح من أهله لا يمكنه الشفاء أبدًا، وذلك لأن الألم جاء من الموضع الذي يُفترض به أن يكون هو الدواء!
ـ اسكتي بقى. أنتِ أيه؟! أنتِ استحالة تكوني أم. دمرتي حياتي قبل كدا و جاية تكملي على الباقي. أنا عرفت كل حاجة. أنتِ اللي روحتي لهيام عشان تبعد ياسر عني، و خلتيها تعمل عملتها السودا فينا.
كان صراخها يصم الأذان، و يزلزل الجدران من فرط ما يحمله من وجع لتنجرح أحبالها الصوتية وهي تصرخ قائلة
ـ أنتِ السبب في كل اللي حصلي. أنا بكرهك. بكرهك . بكرهك…
برقت عيني ياسر حين دلف إلى الداخل و رأى مظهرها، فقد ارعبه صراخها ولكن حين رآها سرت النيران داخل أوردته ليهرول يحتضن جسدها قبل أن يرتطم بالأرض أمام نظرات صابرين المذهولة ليهتف بلوعة:
ـ غنى..
هتفت غنى من بين انهيارها:
ـ مشيها من هنا. دي عايزة تاخدني منك. عايزة تبعدنا عن بعض.
أخذت شهقاتها تتعالى حتى تأذت أحبالها الصوتيه وهي تتابع:
ـ عايزة تاخد روحي مني. مشيها من هنا ابوس ايدك.
لم تكن تحتاج لأكثر من نظرة من ياسر حتى تخرج، وقلبها لازال أسيرًا لصدمته في رد فعل غنى التي تعلقت بعنق ياسر كالغريق الذي يتعلق بقشة نجاته بينما كان هو يهدهدها كطفلًا صغير، وكل خلية بجسده تنتفض ألمًا على مظهرها وما ألم بهم، فقد تفاجيء اليوم من ناجح صاحب المحل الذي يعمل به يتوجه إليه قائلًا بحرج:
ـ ياسر يا أبني. أنا وشي في الأرض منك. بس انت ملكش شغل عندنا.
برقت عيني ياسر من شدة الصدمة التي شابت لهجته حين قال:
ـ ليه يا معلم ناجح بتقول كدا!
كان الحرج بادٍ على محياه و أيضًا كان الارتباك يتخلل نبرته حين قال:
ـ معلش بقى. أصل أنا. يعني. كنت مواعد واحد قريب الجماعة اني هشغله، و نسيت و لسه الحاجة مفكراني. المهم انك لازم تمشي، و خد دول مساعدة مني مشي نفسك بيهم لحد ما تلاقي شغل.
كانت إهانة قاسية بالنسبة إليه، فهتف بنبرة جافة:
ـ خلي فلوسك انا مش محتاجها. الريس ياسر مبيخدش صدقة من حد.
وضع قبلة دافئة فوق خصلاتها وهو لايزال يحتضنها و شفاهه لا تنفك عن ترديد آيات الذكر الحكيم على مسامعها حتى هدأت، ولكن الوجع لم يفعل ليتساقط من نبرتها حين قالت:
ـ خلينا نمشي من هنا. أرجوك يا ياسر مش عايزة اقعد في مكان قريب منها.
كان حديثها كالجمرات التي تحرق أحشائه من الداخل، ليهتف بنبرة مُتحشرجة من فرط الألم:
ـ متخافيش من حد طول مانا موجود.
رفعت رأسها تناظره بأسى تجلى في نبرتها حين قالت:
ـ أنا خايفة على نفسي منهم. نفسي اعيشلي يومين مرتاحة جنبك، لكن بوجودهم حوالينا. أنا مش هستحمل. يا هيموتوني يا هموت نفسي.
ياسر بلهفة:
ـ بعد الشر عنك.
غنى بانفعال:
ـ أنت مش فاهم. دي كانت عايزة تاخدني معاها عشان أنا جيت أعيش معاك هنا. فارق معاها البيت والفلوس وانا لا. ابعدني عن هنا أبوس إيدك.
ياسر بحنو:
ـ طب اهدي يا حبيبتي وانا هعملك اللي أنتِ عايزاه. اهدي..
قام بحملها ليضعها فوق مخدعها وبقى إلى جانبها لبعض الوقت إلى أن غفت ليستمع إلى طرق قوي على باب الغرفة، فذهب لرؤية الطارق ليجده يزيد الذي كانت ملامحه مُغتمة ليرحب به ياسر قائلًا:
ـ تعالى يا يزيد ادخل.
دلف يزيد الى الداخل، وهو يقول باستفهام:
ـ غنى فين؟
ياسر بجفاء:
ـ نايمة.
ـ تعبانه ولا أي؟
زفر ياسر بتعب قبل أن يقول بجمود:
ـ شوية..
يزيد باستفهام:
ـ مالك؟!
تربع ياسر على المقعد خلفه وهو يقول بجفاء:
ـ ناجح طردني من الشغل، و رجعت لقيت غنى بتصوت و منهارة و بتتخانق مع أمها عشان الهانم عايزة تاخدها معاها. بعد ما سبنا البيت الكبير و جبتها نعيش هنا..
سخر يزيد مُستنكرًا:
ـ تاخدها معاها! هي العالم دي كفرة ولا معداش عليهم إسلام ولا ايه؟
ياسر بمرارة:
ـ مبقتش في رحمة في قلوب الناس يا يزيد. تخيل لما غنى تطلب مني و تتحايل عليا أننا نمشي من هنا. عشان متقعش بسببهم.
ناظره يزيد بتفكير ليُتابع ياسر بحنق:
ـ دي اللي هي المفروض أمها! تخيل حد يهرب من أمه!
فاجأه يزيد حين قال:
ـ و أنت كمان لازم تهرب يا ياسر.
التفت ياسر يناظره بصدمة تجلت في استفهامه حين قال:
ـ أنت بتقول أيه يا يزيد!
يزيد بجمود:
ـ بقولك اللي سمعته. خد غنى و أمشي من هنا..
ياسر بحدة:
ـ ما توضح تقصد ايه؟ و ليه بتقول كدا؟!
صمت يزيد يسترجع ما حدث بينه وبين هيام منذ عدة أيام
عودة إلى وقتٍ سابق
ـ بتضربيني يا هيام!
هيام بصراخ:
ـ لما بعد العمر دا كله و بعد ما ضيعت شبابي عليكوا عايزين تحطوني تحت جزمتكوا يبقى أيوا هضربك يا يزيد!
يزيد بانفعال:
ـ لسه قادرة تتكلمي بعد اللي عملتيه في ياسر و غنى!
هيام بانفعال:
ـ كنت عايزني أسيبهم يدهوسوا علينا و يبهدلوا فينا عشان ست الحسن و الجمال! خلاص مبقاش عندكوا دم!
يزيد باحتقار:
ـ و أنتِ كدا انتقمتي من مين من أمها ولا من ياسر!
هيام بحدة:
ـ منتقمتش. أنا عملت الصح.
سخر يزيد بمرارة:
ـ طب اتبسطي بالصح بتاعك بقى عشان ياسر مبقاش عايز يبص في وشك تاني.
هيام بنبرة جريحة:
ـ عشان واطي. باعني أنا أمه عشان حتة بت أمها بهدلته وراحت باعتها بتراب الفلوس.
يزيد بتصحيح:
ـ قولي كدا بقى. دا اللي عاملك أزمة. بس عارفة ياسر عمره ما هيسيب غنى حتى لو كانوا أهلها شوك. و كمان هو مبقاش محتاجك خلاص، و دا من ضمن الأسباب اللي مجنناكي.
صرخت بملء فمها:
ـ هيفضل محتاجني العمر كله.
لأول مرة يتطور صوته إلى الصراخ حين قال:
ـ غلط. ياسر بنى حياته لنفسه و هيعيش في بيت بابا و هيشتغل و مش لازمه حاجة منك.
بلغ الغضب منها مرحلة الحقد لتهتف بشراسة:
ـ الله في سماه ما هيحصل، و مبقاش هيام الوتيدي لو في باب رزق واحد اتفتحله هنا طول مانا عايشة على وش الدنيا، و ورحمة أبوك و أمك لهخليه هو اللي يجيلي يبكي، مش انا اللي هروحله. وخلينا نشوف مين اللي كلامه هيمشي في الآخر.
عودة إلى الوقت الحالي
أسودت ملامحه من الغضب، و تعاظم الألم بصدره، فلم يكن يتخيل بحياته أن تؤذيه تلك اليد التي كانت تحنو عليه يومًا، ولكنه قرر أنه سيأخذ ثأره على طريقته، و ليتركها فريسة لما صنعته يداها لذا قال بجفاء:
ـ عندك حق. أنا لازم أمشي.
اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم♥️
★★★★★★★
مرتِ الأيام بثِقَلها، بما حملته من صعوباتٍ وأزمات؛ كانت وقودًا للبعض، وجدارًا سميكًا اصطدم به آخرون. وحتى حين مرت لم يكن مرورها عابرًا أبدًا؛ فقد خلفت في القلوب ندوبًا محفورة لا يمحوها الزمن، مهما حاولنا تجميلها أو تجاهل أنينها. تبقى هناك، بأوجاعها الكامنة، كأن القلب مقبرةٌ دُفن فيها الكثير من الذكريات. ذكريات لا تموت، بل تهتاج كلما أرخى الليل سدوله، فيبدأ الحنين بطرق الأبواب كزائرٍ غير مرغوب فيه، يذكّرنا بحقوقٍ لم تُرَدّ، وبأثمانٍ دُفعت من أرواحنا ولم يُسأل عنها أحد بعد.
ـ يالا يا أشجان اتأخرتي ليه؟ الحفلة هتبدأ!
هكذا تحدثت آسيا بتوتر بلغ ذروته، فقد كانت هذه هي أكبر حفلة أقدمت على تحضيرها منذ أن قامت بافتتاح عملها الخاص كمنظمة حفلات، و قد مر عامًا من التعب و الجهد المُضني المبذول في سبيل تحقيق غايتها في النجاح، وها هي الحفلة المرتقبة قد شارفت على البدأ ليأتيها صوت أشجان المرح من خلفها:
ـ أيه رأيك أظن مفيش أسرع من كدا.
التفتت آسيا تعانقها، و كأنها تستمد منها القوة التي لم تبخل عليها أشجان بها، بل هتفت بحبور:
ـ أيه الجمال دا يا آسيا!
آسيا بارتباك:
ـ أنا ولا الحفلة؟!
أشجان بصدق:
ـ أنتِ طبعًا في الأول. و الحفلة كمان التنظيم تحفة يا آسيا ايه الابداع و الذوق العالي دا؟!
شعرت آسيا بالسعادة من حديث شقيقتها لتهتف بأنفاس متقطعة:
ـ بطني وجعاني اوي بجد هموت من التوتر.
أشجان بلهفة:
ـ آسيا. اوعي تكوني مخدتيش الدوا، ولا اتجننتي و شربتي قهوة على الريق! ابوس ايدك أنتِ مش متحملة.
آسيا بملل:
ـ مفيش الكلام دا. أنا متوترة بس عشان راجي بيه طلب مني اني انا اللي هقولة كلمة الافتتاحية.
احتضنتها أشجان وهي تقول بتشجيع:
ـ هتبهري الناس كلها أنا واثقة.
كانت بالفعل مبهرة في هذا الثوب الأسود الذي يعانق جسدها بغواء، بقماشته اللامعة و تلك الفصوص التي تزين صدره الذي كان يكشف مقدمة عنقها المرمري، و الذي حاوطته بخصلاتها الطويلة و لم تخفي اكمامه الشفافة بياض ذراعيها بل أظهرته لتبدو غاية في الفتنة تضج بالحياة و الحيوية التي يفتقدها قلبها تمامًا.
ـ شروق و جميلة وصلوا أهم و كمان رنا جاية مع خالد ورايا. يالا اطلعي أنتِ عشان تفتتحي الحفلة و خليكِ واثقة انك أنجح و أحلى و اشطر بنت في الدنيا.
هكذا هتفت أشجان بتشجيع لتناظرها آسيا بامتنان وهي تتوجه حامله فستانها ذو الذيل الطويل لتصعد إلى المنصة، و هي تفرق أنظارها بين مُحبيها لتتلقى النظرات المُشجعة، فسحبت قدرًا كافيًا من الهواء داخل صدرها قبل أن تبدأ في الحديث قائلة:
ـ مساء الخير على حضراتكم جميعًا، سعداء جدًا بوجودكم معنا الليلة في هذا الحدث المميز، حيث يجتمع الجمال مع الإبداع، والرقي مع البهجة، في أمسية نأمل أن تظل عالقة في الذاكرة طويلًا.
نلتقي اليوم لنحتفل بلحظة استثنائية، أُعدّت بكل حب واهتمام، لنصنع معًا تجربة تليق بحضوركم الرائع. نعدكم بسهرة مميزة تجمع بين الجدية والمتعة، وبين الفخامة والضحكة الخفيفة التي تُنعش الروح فحتى أكثر المناسبات رسمية، تحتاج إلى ابتسامة صغيرة لتكتمل.
أهلًا وسهلًا بكم، ونرجو أن تستمتعوا بكل تفصيلة اعددتها انا و فريقي المتواضع من أجل إرضائكم، و رسم الابتسامة على وشوش حضراتكم. ودعونا نبدأ هذه الليلة كما تستحق: بحماس، وووووو
فجأة توقف كل شيء من حولها صمتت جميع الأصوات، اختفى جميع الحاضرين من حولها و انحسرت كل الأضواء على شخصًا واحد يكن قلبها منذ زمن بعيد و غادرها بقسوة كعاصفة لم تغادر إلا بعد أن اقتلعت الحياة من الزهور، لقد عاد حبيبها و معذبها عاد كمال….
