رواية فوق جبال الهوان الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم منال سالم


 رواية فوق جبال الهوان الفصل التاسع والخمسون 

فعلت ما فعلت من أجل نيل ما لا تستحق بالقوة والإجبار، إلا أنها كانت الخاسر الوحيد في تلك الحرب الممتدة. وضعت "أحلام" يدها على موضع صفعته التي خدرت صدغها، وطالعت والدها بنظرة حانقة مملوءة بالغضب والغيظ، لتصيح تسأله مستنكرة:
-ليه إكده يا بوي؟
خفض الغفير من رأسه تجنبًا لمشاهدة تقريع الأب لابنته، وكذلك فعلت الخادمة "نعمة"، ليمنحهما مساحة خاصة بهما للعتاب والاستعتاب، فيما صاح "راشد" عاليًا، غير مكترث بإحراجها علنًا:
-أني معرفتش أربيكي، بس ملحوجة، الغلط مردود.
سألته في توجسٍ، وهي تستشعر تلاحق دقات قلبها:
-جصدك إيه يا بوي؟
أعلمها بلهجته التي لا تُرد:
-جهزي حالك النهاردة للضيوف الجايين، ما إني بلغت عمك يجي عشية مع واد عمك علشان يشهدوا على كتب كتابك على "محروس".
لطمت على صدرها صائحة في ذهول مستهجن:
-كتب كتابي!
أكد لها صحة ما سمعت:
-إيوه، على "محروس".
سألته في التياعٍ وهي تكاد لا تصدق ما يحدث لها:
-"محروس" مين يا بوي؟
أجابها موضحًا:
-ابن الحاج "عرفة".
فور أن علمت بهوية ارتفع صيحها شديد الإنكار:
-بــــاه!
ذُهلت "نعمة" مثلها، وأحست بمدى الحسرة التي تحيق بسيدتها الآن، ومع ذلك لم تجرؤ على التفوه بكلمة، واكتفت بالاستماع الصامت لما يدور بينهما.
لم يبالِ "راشد" بما يراه من انفعالٍ وتأثر، وتابع في برودٍ:
-كان كلمني عليكي أديله فترة وكنت موخر ردي عليه، بس خلاص أني وافجت.
انتفضت مقتربة منه، وأمسكت بطرف قفطانه تشده هادرة في دهشةٍ تشوبها الاستنكار:
-ده متجوز تنين غيري يا بوي!
رد بغير ممانعة:
-وماله، جادر يفتح بدل البيت عشرة.
انفجـــرت في بكاءٍ مرير تستجدي مشاعره:
-حــرام عليك يا بوي، إن كنت بتظلمني!!
نزع يدها عن قفطانه قائلًا بخشونةٍ:
-إنتي اللي ظلمتي حالك بالبلاوي اللي بتعمليها، دوجي من نفس الكاس.
استمرت في رجائها إليه:
-يا بـــوي...
أخرسها قبل أن تتم باقي كلامها بأمره الصارم، ويده تقبض على ساعدها ليدفعها بقوةٍ أمامه:
-انجري جدامي يا وش الغم!
قــادها رغمًا عنها عائدًا إلى بيته، ومن ورائهما الخادمة، وكلتاهما لا تصدقان ذهاب أحلام "أحلام" في مهب الريح.
.....................................
الأصوات الخارجية رغم بُعدها عن موقع غرفته، إلا أنه كان قادرًا على سماع الشد والجذب بين واحدة اعتادت بث سمومها طوال الوقت من أجل هوى نفسها، وبين عمه الذي كان يقف محني الرأس أمام رعونة أفعالها. استفاق "غيث" وتيقظ على صوت جدالهما المحتد، ومع هذا لم يعبأ بهما، أطبق على جفنيه مرتين حتى يعتاد على ضوء النهار الذي تسلل عبر النافذة الزجاجية ناثرًا أشعته على الأرضية. تثاءب بتعبٍ مستشعرًا ذلك الثقل الجاثم على صدره.
تصلب في رقدته وقد أدرك أن ذلك الشيء الرابض فوق ضلوعه ما هو إلا رأس "دليلة"، أحس بارتفاع دبيب دقاته للمفاجأة السارة، فآخر ما كان يذكره أنه غفا بجوارها على حافة الفراش، تاركًا مسافة فاصلة بينهما، ولم يشعر باقترابها، ولا احتضانها إياه أثناء غفلته، لقد كانت مسترخية في نومها، للدرجة التي جعلتها تفرد ذراعها على جسده، وتحيط به، وتستريح برأسها على صدره، وكأنها تضم وسادتها المحببة إليها.
كم أحب تلك اللحظة الحميمية المميزة التي جمعت بينهما بلا تناحرٍ أو رفض! لكن ما لبث أن هاجمته الهواجس، فقد خشي إن استيقظت ووجدته ملتصقًا بها على نفس الفراش لانزعجت منه، واتخذت موقفًا متحيزًا ضده، لذلك قرر الابتعاد عنها قبل أن تنهض وتفسد الذكرى بشجارٍ غير مستحبٍ إليه.
بحذرٍ واضح، أزاح يدها الناعمة المستقرة بعيدًا عن جسده، وأرجعها للخلف، لتتبقى المهمة الأصعب؛ ألا وهي إبعاد رأسها، وإراحتها على الوسادة بتأنٍ، أمسك بها من منبتي كتفيها، ثم زحزح جسده بتريثٍ من أسفلها، ليضع رأسها على الوسادة.
بمجرد أن فرغ من الأمر نهض عن الفراش في عجالةٍ، وقف موضعه، وطالعها من علياه مُلقيًا عليها نظرة طويلة متأنية، ظلت غالبية الوقت مرتكزة على ملامح وجهها الجذابة، بدت أشبه بالملائكة في سكونها المغري.
توتر عندما وجدها تتململ في الفراش بدلالٍ وراحة، فتراجع متجهًا نحو الأريكة، ليستلقي عليها موليًا إياها ظهره، وراح يبعثر الغطاء حوله، فتظن إن استفاقت ونظرت ناحيته أنه كان غافيًا منذ البداية عليها ولم يبرح مكانه. 
وحدث ما توقعه، حيث استيقظت "دليلة" بعد لحظاتٍ، وتمطت بذراعيها في كسلٍ قبل أن تستوعب أنها ليست بغرفتها، وأنها تمكث على فراش "غيث" بحكم كونها زوجته، خفق قلبها بقوةٍ، وأسرعت تنظر إليه بإمعانٍ بعدما طار النعاس من عينيها.
كان لا يزال ممددًا على الأريكة، فاعتقدت أنه مستغرق في نومه، طال تأملها إليه وهي تطوف بعينيها على جسده القوي، مستعيدة لمحات خاطفة من مواقفه المدافعة عنها، لتتذكر فجــأة أنها كانت تنتظره على الأريكة، فكيف لها أن تفيق على فراشه؟ تساءلت بلا صوتٍ:
-أنا جيت هنا إزاي؟
لم يكن الأمر بحاجة للتخمين، حتمًا حملها بين ذراعيه وأعادها إلى سريره مثلما حملها سابقًا، تحرجت من استعادة ذكرى المشهد، ونهضت مسرعة من على الفراش، لتسير بخطواتٍ متعجلة نحو الحمام مغلقة الباب خلفها، وسخونة دافئة قد تصاعدت إلى وجنتيها لتشعرها بمدى خجلها من اقترابهما اللطيف.
حينما سمع صوت غلق الباب، اعتدل "غيث" على الأريكة، وتطلع إلى بقايا أثرها الراحل مبتسمًا في حبور.
..........................................
منذ باكر، وهي تقف على رأس الخدم، تتابع بحرصٍ ومحبة إعداد طعام الإفطار للعروسين، فقد تعهدت لنفسها بأن تتولى تلك المهمة، لذلك فور أن انتهت من متابعة زوجها قبل ذهابه للعمل، أسرعت إلى المطبخ، وقضت الساعات الأولى من النهار فيه، فقط استغربت من عدم تواجد الخادمة "سنية" بين البقية.
التفتت "عبير" ناظرة إلى حماتها، وقالت باسمة في حماسٍ:
-أنا جهزت الفطور يامه للعرســان، هنطلعوا ميتى نوديه عندهم؟
سحبت "فاطمة" المقعد الخشبي لتجلس عليه بعدما باشرت هي الأخرى أعمال الخادمات، وأجابتها:
-جرب الضحي إكده، لساتهم نايمين.
رفعت "عبير" بصرها، وأيضًا كفيها للسماء داعية:
-ربنا يسعدهم ويخلف عليهم بالخلف الصالح.
جاءت "عيشة" وبصحبتها ابنتها إلى المطبخ ملقية على المتواجدين التحية بألفةٍ وود:
-صباح الخير عليكم.
تولت "فاطمة" دفة الكلام، فردت عليها بوجهٍ بشوش:
-صباحكم كله رضا وخير من الرحمن.
تقدمت ناحيتها "عيشة" للسؤال عن أحوالها:
-إزيك يا ست الحاجة؟
أجابتها بعد تنهيدة سريعة:
-إبخير يا ست "عيشة"، دجايج والفطور يكون جاهز.
شكرتها على حسن ضيافتها المتواصل معهن منذ لحظة مجيئهن إلى هنا:
-كتر خيرك، دايمًا تاعبة نفسك.
قالت وهي لا تزال تحافظ على ابتسامتها الصافية:
-وأني بعمل إيه عاد؟ ما على يدك البنات إهنه بيجوموا بكل حاجة.
تساءلت "عبير" فجــأة وهي تطرح غطاء قماشي صغير على صينية الطعام المُعدة للعروسين:
-أومال فين "سنية" يامه؟ مش باينة ليه؟
أدارت وجهها تجاهها لتجيبها بغموضٍ أثار ريبة الحاضرين:
-"غيث" رجعها لأهلها برا الجصر.
على الفور انهالت عليها "عبير" بأسئلتها المستفهمة:
-ليه إكده؟ في حاجة حُصلت؟ دي البت بجالها عُمر معانا...
تبادر إلى ذهنها سوء ظنٍ ربما اقترفته في لحظة ضعفٍ منها واستسلامٍ لوساوس الشيطان، فأقرت بما جال في خاطرها بشيءٍ من الحرج:
-ولا تكون مدت يدها وسرقت لا سمح الله؟
بنفس النبرة المغلفة بالغموض أجابتها "فاطمة"، ووجهها الجامد يُوحي بأنها لا تبالي بشأن مصيرها:
-ربك وحده اللي عالم، وبعدين إنتي خبراني ما براجعش ولدي الكبير في اللي يجوله....
وقبل أن ت
-فضنا من سيرتها اللي لا هتجدم ولا هتوخر، وخلينا مع حبايبنا الغاليين، جولولي في حاجة نقصاكم؟
-الحمد لله كله تمام.
-ماما، عايزين نشوف "دليلة" صحيت ولا لسه.
-دلوجيت نطلع نطلوا على العرسان.
..........................................
البقاء حبيسة الحمام، بعيدًا عن مرمى نظراته، وحضوره الذي يبعث في نفسها ذلك الشعور الذي تقاومه لن يظل خيارها الأبدي، كان عليها أن تخرج وتواجهه بأي حال، لذلك سحبت "دليلة" نفسًا عميقًا، ولفظته على مهلٍ قبل أن تستجمع جأشها، وتفتح الباب، لتتجه ببصرها تلقائيًا نحو الأريكة، حيث كان "غيث" جالسًا عليها. تباطأت "دليلة" في خطواتها وهي تتحرك صوبه، وسألته بصوتٍ عبر عن ارتباكها:
-إنت صحيت؟
نهض من موضع جلوسه حين أجابها:
-إيوه.
توقفت في منتصف المسافة بفعل التوتر، وأمسكت بطرفي منامتها بأصابعها، لتجده قد قطع ذلك الفاصل بينهما في لمح البصر، ليخاطبها بصوتٍ خفيض لكنه مؤثر:
-هما المفروض بيجولوا لما النهار يطلع على العرسان صباحية مباركة....
توردت بشرتها بشدةٍ، فتابع في هدوءٍ، وعلى نفس الوتيرة الهامسة:
-بس أني عجولك صباح الخير يا ست البنات.
أحنت رأسها على صدرها متحاشية نظرتها المرتكزة عليها، وهمهمت في خفوت:
-صباح النور.
ربكتها اللذيذة، وخجلها المستحب إليه، جعله يرغب في احتضانها، ورغم ما يناوشه من مشاعر مُلحة، إلا أنه قاومها، وتحلى بسلاح الصبر، ليسألها في جديةٍ باعدًا نظرته التواقة عنها:
-محتاجة الحمام تاني، ولا أخش اتسبح؟
رمشت بعينيها قائلة وهي تتحرك للجانب لتفسح المجال له للمرور:
-خد راحتك.
سار نحو الدولاب ليفتح ضلفتها، وسحب من على الرف ثيابه مخاطبًا إياها:
-هاخد خلجاتي إمعاي علشان أغير جوا.
تابعته بنظرتها الخجلى وهي تعلق عليه بما يشبه الاعتذار:
-معلش عملالك زحمة في الأوضة.
رمقها بنظرة معاتبة قبل أن يحذرها:
-بــاه! عنعيدوه نفس الحديت الماسخ إياك؟
تشنجت في وقفتها، فلاحظ ما بدا عليها من خوفٍ، فأخبرها بهدوءٍ، لكنه يحمل الجدية:
-جولتلك جبل سابق دي أوضتك دلوجيت، وكل اللي فيها يخصك، اعملي فيه ما بدالك، وأني مش هراجعك، مفهوم.
اكتفت بهز رأسها، فتابع مشيرًا بيده نحو الحمام:
-أني داخل جوا.
أجلت حنجرتها، وردت باقتضابٍ:
-براحتك.
زفر الهواء بصوتٍ مسموع، وولج إلى الداخل وهو شبه منزعج، فكم يرجو لو تزال الحواجز القائمة بينهما، وتحول دون إتمام علاقتهما بالرضا والتفاهم!
............................................
لم يكن من عادته تأجيل أعماله، أو تأخير ما هو متعلق به كل هذه المدة؛ لكن الظروف استدعت أن يكون متواجدًا برفقة أعز الناس لديه حتى لم تعد هناك أدنى حاجة من بقائه. ســارع "وهبة" مع رجاله عائدًا إلى مدينته، وأثناء استفساره عن أحوال وكالته، تفاجأ بأحد تابعيه يُعلمه هاتفيًا بشيءٍ أثار حفيظته:
-ريس "وهبة"، في حاجة حصلت قولت لازمًا تاخد خبر بيها.
سأله بغير صبرٍ، وبنبرة آمرة:
-انطق ياض، في إيه؟
بعباراتٍ محددة ومباشرة، أخبره بمجيء أحد ساكني البناية المتواجد بها منزلي "فارس" للشكاية إليه من اقتحام دخلاء للمكان، وإحداث الفوضى به، ناهيك عن تهديدهم السافر إليه إن تجرأ وعارضهم، لينهي كلامه بإعلامه باسم ذلك البلطجي المتبجح. 
صاح "وهبة" في غضبٍ بعدما عرف بهويته:
-يادي النهار المدوحس، ورب العزة ما هفوتهاله واد الحـــرام ده!
لينتبه إلى صوت تابعه المتسائل في تحيرٍ:
-بس كيف عِرف بعنوان "فارس" يا ريسنا؟ 
وكأن الجواب معروف مسبقًا، حيث انزلقت الإجابة على لسانه كالسيل:
-يبجى في حد ...... مندس وسط رجالتنا بينجِله أخبارنا!
راح تابعه يتساءل في مزيدٍ من الشك:
-مين ابن الـ ..... ده؟ وهنعرفه إزاي يا ريس؟
غامت نظراته، وقست تعابيره على الأخير، قبل أن يستطرد في رنة صوتٍ متوعدة:
-أني خابر كيف أوجعه في شر أعماله.
.............................................
ساعده الماء الفاتر المنهمر على جسده على تهدئة خلاياه الصارخة بما يُسكت أنينها الطامع في تذوق حلاوة القرب، وانشغل بإغراق أطرافه بكتلٍ من رغوة سائل الاستحمام النفاذة، لتغدو رائحته طيبة ومنعشة، فلا تتأفف "دليلة" من وجوده في محيطها. لم يتوقع "غيث" وهو في غمرة ذلك الأمر أن تنقطع المياه من الصنبور، فحاول البحث بنصف عينٍ عما يمكن أن يسعفه، إلا أن المادة الحارقة للسائل زحفت إلى مقلتيه وألهبتهما، فصاح مستنجدًا بها:
-"دلـــيلة"!
كانت الأخيرة قد انتهت لتوها من تمشيط شعرها، وتبقى لها أن تبدل منامتها بشيءٍ آخر مناسب لفترة النهار؛ لكنها ترددت في تغيير ثيابها خشية أن يقوم بفتح باب الحمام فجــأة، فتنكشف أسرارها المغرية ويزداد شعور الحرج بينهما، معتقدًا أنها تفعل ذلك عن عمدٍ لتفتنه بعدما أخبرها مساء الأمس بأن اتفاقهما لا يزال قيد التنفيذ. 
عندما سمعت صوته يناديها مجددًا اقتربت من الباب، ومالت عليه تسأله، دون أن تملك الشجاعة الكافية لفتحه:
-إنت بتناديني؟ عايز حاجة؟
جاءها صوته من الداخل يطلب منها:
-شوفي عندك شوية مَي أغسل بيهم وشي لأحسن انجطعت إهنه.
ردت في طاعة:
-حاضر.
سمعته يرجوها:
-أوام الله يرضى عنيكي.
خاطبته وهي تسرع نحو الكومود لتمسك زجاجة المياه الموضوعة عليه:
-على طول أهوو.
عادت لتقف بجوار باب الحمام المغلق، ودقت عليه قائلة:
-المياه معايا، تقدر تفتح وتاخدها.
سمعته يخبرها بانزعاجٍ:
-أني مش شايف جصادي، اكسبي فيا ثواب وهاتيها حدايا.
خفق قلبها بغتة، وزاد التورد بوجنتيها، لترد في ربكةٍ حقيقية:
-بس مايصحش أدخل عليك وإنت .. آ.. كده يعني.
أتاها رده جادًا:
-أني مستور اطمني
ازدردت ريقها، وقالت في ارتباكٍ:
-أنا داخلة أهوو
بتمهلٍ أدارت المقبض، وفتحت الباب لتلج إلى الداخل بترددٍ واضح، ما الذي كان يقصده تحديدًا بالستر؟ فحينما وقع بصرها عليه كان جالسًا بداخل المغطس، عاري الصدر، وتحيط به الرغوة من كل جانب، فحجبت نصفه السفلي عن مرأى العين.
تدلى فكها للأسفل في اندهاش من البنية العضلية لجسده، وظلت متسمرة في مكانها للحظاتٍ وكل تفكيرها منصب على تلك الهيئة الرجولية التي تراها أمامها، لتنتبه إليه عندما ناداها:
-"دليلة"، إنتي إهنه؟
خرج صوتها مهتزًا وهي تجاوبه باختصارٍ:
-أيوه.
سألها وهو مطبقٌ على جفنيه بشدةٍ، وتعابير وجهه تشي بالألم الحـــارق فيهما:
-إمعاكي المَي؟
أجابته وهي ترفع الزجاجة في الهواء:
-اتفضل أهي.
طلب منها بجديةٍ:
-حطيها في يدي، أني مش شايف حاجة.
تفهمت لطبيعة الظرف الذي يمر به، وتحركت بتؤدةٍ تجاهه وهي تقول:
-طيب.
أمسكت بكف يده، ووضعت الزجاجة في راحته، فبدا ممتنًا للغاية لمساعدتها حين أخبرها:
-كتر خيرك.
ثم قام بصب الماء الموجود فيها على وجهه ليغسله، ويتخلص من ذلك الألم اللاذع الذي ألهب حدقتيه لبعض الوقت. تابعت "دليلة" ما يقوم به بفضولٍ واهتمامٍ، فلم تشعر بنفسها وهي تتأمله عن كثبٍ وبشكلٍ ملحوظ، حتى وجدته يطالعها بنظرة دافئة جعلتها تتلبك، وتدرى مدى سخافتها وهي تظهر انبهارها ببنيانه الجسدي، لتشتت نظرتها عنه متسائلة:
-عايز حاجة تانية؟
قال وهو يعيد الزجاجة الفارغة إليها:
-تُشكري.
أخذتها منه، واستدارت لتلف جسدها فتتحرك بعيدًا عن المسبح؛ لكن انزلقت قدمها بفعل رغاوي سائل الاستحمام التي أغرقت الأرضية، فلم تتمكن من الحفاظ على اتزانها، وسقطت كردة فعل تلقائية بداخل المغطس، في أحضـــان زوجها الذي تلقفها على الفور، وكأنه متأهب لإنقاذها على الدوام، لتجد نفسها مستندة بكفيها على صدره، وهو يطوق جسدها بذراعيه، منحها نظرة لم ترَ مثيلتها من قبل ليسألها في اهتمامٍ ممزوجٍ بشيءٍ من الحب:
-إنتي بخير؟
بدت في قمة خجلها وهي على تلك الوضعية الحميمية، كلاهما ملتصقان ببعضهما البعض، تلاشت المسافات وانعدمت.
حاولت النهوض والابتعاد عنه وهي تعتذر منه مبررة ما حدث:
-أنا أسفة جدًا، رجلي اتزحلقت وآ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها قائلًا بنبرة أيقن من مدى تأثيرها عليها:
-أني موجود عشانك.
اشتعلت وجنتاها بالمزيد من الحمرة الحرجة، لم تعلق عليه، وقبضت بيدها على حافة المغطس، واستندت بالأخرى على كتفه لتدفع جسدها للأمام وتتمكن من النهوض، إلا أن الأرضية التي غرقت بدفقات الماء أعادتها إلى وضعيتها الأولى معه، بداخل حضنه الذي احتواها كالعادة.
لم يتركها "غيث" هذه المرة، وأحكم ذراعيه حولها، لتنظر إليه في خجلٍ وتوتر، فمازحها في عبثيةٍ، وهذه النظرة المليئة بالشوق والرغبة تطل من عينيه:
-شكلك حابة الجعدة إكده معاي؟ وأني مش ممانع.
علا ضجيج قلبها مع كلماته التي اخترقت شغافه، فاستمر في مداعبتها بمعسول حديثه وهو يغمز لها بطرف عينه:
-بس إنتي إكده اللي عتخالفي اتفاجنا عاد!
هتفت في نبرة مرتبكة تبرر في التو ومشيرة بيدها:
-دي الأرض اللي بتزحلق.
استمتع في هذه اللحظات المعدودة بصنع ذكرى أخرى جمعتهما بعفوية، فلم يحبذ تحويلها إلى شيء سخيف تنبذه، فقال وهو يرفعها من خصرها بقبضته القوية ليساعدها على النهوض:
-طب جومي على مهلك، وأني ساندك...
لتسمع همسه الأقرب إلى وعدٍ صادق عندما خاطبها قبل أن تتمكن فعليًا من الخروج من المغطس:
-وهفضل طول ما النفس فيا بأمر الله سَندك  ............................................. !!!


تعليقات