![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الخاتمة بقلم فاطيما يوسف
#الخاتمة_الأولى
برقت عينيه بذهول ودهشة وكأن الخبر نزل كصاعقة على قلبه وعقله ليردد بصدمة:
ـ حامل!
ظلت والدته تهلل بسعادة على ذاك الخبر وقالت:
ـ ايوه حامل يا حبيبي، كانك ما مصدقش جبر ربنا ليك عاد! علشان البهدلة اللي اتبَهدلتوها في الخلفة الأولى، لكن ربك رب قلوب يا ولدي وهيعطي المشتاق واللي يستحق بدون حساب، خد مرتك يلا يا ولدي واطلع على شقتك افرحوا ويا بعضكم وسيبوا لي العيال اهنه.
صعد هو و"سكون" إلى شقتهم وحينما انغلق عليهم باب واحد اقتربت منه وسألته بتخوف:
ـ هو انت زعلان علشان أني حامل، حاسة اني شايفه حزن في عينيك من ساعة ما قلت الخبر؟
تنفّس أنفاسًا عالية، وراح صدره يعلو ويهبط بأنفاسٍ متعثّرة، واقفًا في موضعه؛ كان المفترض أن يغمره الفرح بحمل زوجته وقدوم طفلٍ جديد، غير أنّ ما يضجّ في رأس "عمران" كان أمرًا آخر يبعث الخوف في أعماقه، شيءٌ أثقل من فرحته بأن يكون له مولودٌ رابع وتتّسع عُزوته،
كان القلق في صدره أضخم من البِشر، وأشدّ حضورًا من الرجاء، فداخله بحرٌ هائج لا تشبه أمواجه أمواج الفرح، أجابها أخيرًا، وهو يعرّي قلبه من كل ستر، ويصارحها بكل ما يختلج في صدره من خوفٍ واضطراب:
ـ اني هصارحك باللي حاسس بيه واحد غيري وفي مكاني دلوك كان هيُبقى فرحان وخصوصي لما يكون راجل صَعيدي زيي هيحب الخلف وهيحب العزوة وان ولاده يبقوا حواليه كَتير، وخصوصا بردو لما يُبقى مقتدر زيي، وكمان كراجل قعدت كَتير على ما مسكت وِلدي بين ايدي، فالمفروض دلوك اني اشيلك واطير بيكي من الفرح وابارك لك على الخبر دي .
واسترسل بقلب موجوع لما عاناه معها طيلة كل تلك السنوات، بعيناي حائرة ولسان ثقيل:
ـ المرة اللي فاتَت اتنازلت عن حاجات كَتيرة ، من ضمنهم سنين شبابي وأهمها ضحيت بيهم وبسعادتي وهناي وياكي، اتحرمت من حضنك، وانتي كمان عانيتي كَتير بسبب تعلقك المرضي بالولاد، وكمان خسرتي شغلك ونجاحك وكان زمانك في تقدم أعلى من اكده بكَتير، وعلشان الأسباب داي كلاتها جواي خوف وأسئلة كَتيرة، هل اللي جاي هيُبقى كيف اللي راح؟ هل هيضيع من عمري وعمرك ومن شبابنا سنين تانية بتعلق تاني؟
هل هتنشغلي عني وأني ما لحقتش اتهنى بقربك ولا أرجع اللي فاتني ؟
أسئلة متكاومة جواي كَتيرة في دقايق قِليلة وكانها محفورة جواي من بقالها ياما، كلمة واحدهة قلتها لي دلوك فتحت أوجاع جوة قلبي من تلاها ومعرِفش ايه اللي هيُحصل وايه اللي هيتغير وايه اللي هينكسر بيني وبينك تاني؟ وهل هعرف أني وانتي نداوي مرة تانية لو حُصل اللي حُصل، علشان اكده اني حيران وما قادرش أحس بالفرحة اللي يتمناها أي راجل .
كانت "سُكون" تشعر بالوجع يتوغّل فيها من كلماته، ومن عينيه الحائرتين؛ لا تعرفان طريق الفرح ولا تستقرّان على الحزن، كأنّهما مرآتان لاضطراب حالهما معًا، أدركت في تلك اللحظة كم قصّرت في حقّه، وكم كانت أنانيّتها قاسية حين ابتعدت عنه، وأمعنت في تعذيبه بصمتها وبعدها وإهمالها، اقتربت منه، واحتوت وجهه بين كفّيها، تبتسم ابتسامةً مشوبةً بدموع الحيرة، تشبه ضوءًا مرتجفًا في عتمة قلبها، قرّرت أن تبدأ بالاعتذار؛ عن كلّ ألمٍ زرعته فيه، وعن كلّ وقتٍ كانت سببًا في حزنه ووجعه ومرضه، حتى بلغ به الحال أن يعجز عن الفرح بالجنين الذي ينمو في رحمها،
كان اعتذارها كبلسمٍ على جرحٍ قديم، وكأنّ قلبها يخلع عنه قسوته ويعود عاريًا صادقًا بين يديه:
ـ ياه يا "عمران" اني وجعتك وجع وقصرت في حقك بطريقة ما كنتش متخيلة انه وجعها لسه مأثر فيك ومالي جواك لحد دلوك،
حقك علي اني قصرت في حقك وضيعت اجمل ايام حياتنا، سنين طويلة عيشتك فيها هم وغم، حقك علي على صبرك وانك اتمرضت بسببي واتحمَلت لوحدك وما كنتش هتعرِفني كمان لولا اني عرفت صدفة، حقك علي انك اتحمَلتني واتحملت نكدي وتقصيري معاك كَتير وكنت شجاع وعمرك ما حسستني إني وحشة، وكنت دايما مسامح، شكل ما يكون ربنا اداك الحظ العظيم في المسامحة كلاتها اللي في الدنيا، حقك علي إن السبب في وجعك واللي ما خلاكش دلوك فرحان بالطفل اللي جواي، واني دايما مخليه فرحتك ناقصة، اني طلعت وحشة قوي يا "عمران" علشان اشوف نظرات الحيرة والألم والوجع دول في عينيك وانت عمرك هتكرمني وهتعاملني معاملة الفرسان واني كنت هقابلها بمعاملة شينة قوي.
أنهت "سُكون" كلماتها، ثم ارتمت في حضن "عمران" باكيةً بانهيار، ينهشها إحساسٌ قاسٍ بالتقصير، شعورٌ ثقيل جعلها ترى نفسها السبب في اللحظة العصيبة التي يعيشانها الآن،
أمّا هو، فلم يكن يعنيه من حديثها شيءٌ بقدر ما مزّق قلبه دمعها، ولا هزّه شيءٌ مثل إحساسها بالذنب ولومها الدائم لنفسها،
شدّد عناقه حولها بقوة، كأنّه يحتمي بها وتحتمي به في آنٍ واحد، ثم أبعدها قليلًا عنه، وأخذ يقبّل رأسها وكفّيها وعينيها، يطمئنها بكلماته ونظراته، ويخفّف عنها قسوة جلدها لذاتها، كأنّه يمحو عنها ذنبًا لم يره الآن ذنبًا:
ـ لاااه يا "سكون" لاه يا حبيبتي ما تبكيش، انتي مهما عملتي ومهما حُصل ما بيني وما بينك ليكي جواي مكانة أني ذات نفسي ما هحطهاش لحالي ولا هحب نفسي اكتر ما هحبك، يعلم ربنا من يوم ما رجعنا اني وانتِ طبيعيين زينا زي أي زوجين نسيت كل اللي حُصل السنين اللي فاتت داي كلاتها، وما بقاش جوايا أي ذكرى مرة عشناها ومرينا بيها سوا أني وانتي، يعلم ربنا اني مش شايل لك في قلبي غير كل الحب والعشق ولا شايل لك في عيني غير نظرة الغرام اللي اثرتني من اول لقا بيني وما بينك من سنين السنين، ما تبكيش ياحبيبي أني عمري ما كان جوايا ليكي غير كل الحب اللي في العالم كلاته، اني هحبك وهعيش واني هحبك وهموت واني هحبك وما فيش أي حاجة هتزعزع عشق " عمران" للـ"سكون" مهما كانَت ومهما حُصل، بس ياحبيبي ، اهدي يا قلب "عمران" .
هدأت من بكائها، تحاول أن تُمسك بأعصابها المتفلتة، وقد سكن قلبها حين وجدت في كلمات "عمران" ونظراته طمأنينةً صافية، وإثباتًا يتجدّد للمرة الألف أنّها أحسنت الاختيار، وأنّ قلبها لم يُخطئ حين أحبّ،
أيقنت أنّها اختارت فارسًا من فرسان الزمن الجميل، أولئك النادرين الذين لا يتكررون كثيرًا في هذه الدنيا، وأدركت كم أنّ الله أحبّها حين أكرمها برجلٍ مثله،
عرفت كم هي محظوظة لأنّها وقعت في طريقه، وكم أنّ سنوات العذاب التي احترقت فيها حبًّا له دون أن يدري لم تذهب سُدى، بل كانت ثمنًا مستحقًا لهذه اللحظة،
وفي يقينها ذاك، شعرت أنّها امتلكت الكون بأسره، وأنّ الدنيا ضاقت ثم اتّسعت بقلبه:
ـ قد ايه أني ست محظوظة بيك وانك انت حظي الحلو اللي ربنا رضاني وأكرمني بيه، وعلشان اطمنك اني عمري ما هرجع ابعد عنك تاني ولا هفكر اسيب حضنك، أني حسيت في بعدك عني اني كنت عريانة من الحنان، كنت فاقدة روحي الحلوة وبضيع سنيني وسنينك في تعلق وهمي كان هيضيعك مني، هوعدك اني اتعلمت الدرس خلاص وعمري ما هرجع زي ما كنت عمري يا "عمران" ، عايزاك تطمَن وعايزة قلبك يطمَن عايزاك تفرح انت من حقك تفرح.
ما إن سمع كلماتها بتلك النبرة المتوهّجة بالحماس، حتى بدت له وكأنها شرارة الانطلاق التي أذنت لقلبه أخيرًا أن يفرح بخبر حملها، وكأنّ الله فتح له باب الرضا دفعةً واحدة،
أيقن أنّ ربّه سيكرمهم بهديةٍ جديدة، ومنحةٍ رابعة تكتمل بها عزوته، أو مفاجأةٍ جميلة يبعثها القدر لتكون جبرًا بعد التعب،
شعر أنّ الله زاد في عائلته روحًا، وفي قلبه امتدادًا، وفي بيته حياةً أخرى لم تكن في الحسبان،حملها بين ذراعيه وراح يدور بها في أرجاء المكان، يضحك بصدقٍ نادر، ويُفرغ فرحته المكبوتة في حركةٍ عاشقة متيمة،
وكان صوته، وهو يعبّر عن سعادته، كنبضٍ عاد إلى قلبٍ تأخر عنه الفرح طويلًا:
ـ طب مبروك علينا بقى يا "أم سَليم" ، مبروك قدوم نبتة جديدة مني ومنك نكمل بيها عزوتنا وتعزز حبنا.
انزلها من أحضانه وكاد أن يلف بها المكان إلا أنها منعته معللة ببسمة رقيقة:
ـ طب بالراحة علي لساتي في أول الحمل واكده خطر على اللي في بطني يا "أبو سَليم"، بس ايه الفرحة الشَديدة داي وكأنها أول مرة عاد؟
جذبها إلى أحضانه مرة أخرى وقال بنبرة عاشقة:
ـ علشان المرة داي جاية اكده هَدية من عند ربنا من غير ما نلفلف ولا نتعب كيف المرة اللي فاتَت ، هبة جميلة واتمنى تكون بنت كمان تُبقى أخت لـ"سكن".
وتابع وهو يقلب وجهه إلى عابث وسألها بمكر:
ـ وعلى اكده الحمل دي هيمنعنا من حاجة مهمة قوي يا "أم سَليم" ؟
عقدت حاجبيها وسألته :
ـ حاجة مهمة! كيف يعني مفهماش؟
أجاب بصوت عابث :
ـ وه ! كيف موعياش يعني للحاجة داي شكلك الحمل واوله هيأثر على مخك عاد؟
مطت شفتيها بدهشة:
ـ وه انت يا "عمران" كركَبت معدتي جواي ما تنجز وتقول بقى حاجة إيه داي عاد؟
ابتسم بخبث واقترب منها وهو يهمس بجانب أذنها بما جعلها دفعته في صدره من وقاحته:
ـ هيمنعنا من ليالي الحكمدار وأيامه الحلوة، والهزات اللولبية اللي كانت هتفك الليالي، دي اني كنت ناوي ليلة الخميس داي نسوي الهوايل ونعيد الأمجاد.
خجلت بشدة من طريقته ودفعته بقبضة يديها الصغيرتين في صدره وقالت:
ـ وه انت اتبدَلت خالص وبقيت مهتستحيش تقول اي حاجة اكده؟
جذبها من رأسها وثبتها أمام جبينه وهو يقبلها من عينيها بشغف:
ـ وفيها ايه التغيير مطلوب بردو يا "أم سَليم" وبصراحة وبما انك داكتورة نسا عايزك تعرِفيني بالظبط ايه طبيعة العلاقة في قربنا ، يعني تعرِفيني أعمل إيه وما أعملش ايه ، حكم أني عارفني صَعيدي متهور وغشيم في أمور القرب داي .
ابتسمت بخجل شديد لتلميحاته وظل كلاهما يسكب على الآخر أواني من شهد الكلام الجرئ والمملوء بالغرام، وقضيا ليلتهم المميزة "سكون" تدلل "عمرانها" كما تدلل الملكات ملوكها، كان في تلك الليلة كما شهريار العاشق وهي شهرازده التي تمنحه من حكاوي وقرب العشاق ما يكفي ويفيض.
********
كان الوجع هذه المرة مختلفًا، لا يشبه أي ألم سابق مرّ على جسد "رحمة"، لم يكن مجرد وخز عابر أو تقلص محتمل، بل موجة عاتية صعدت من أسفل ظهرها وضـ.ـربت بطنها دفعة واحدة، حتى شعرت أن أنفاسها تُنتزع منها انتزاعًا، تشبثت بحافة السرير، وأطلقت أنينًا خافتًا، قبل أن يعود الألم أشد، أعمق، أكثر إصرارًا، كأنه يعلن عن قدوم شيء لا يحتمل التأجيل،
وضعت يدها على بطنها، عيناها تتسعان بفزعٍ غريزي، وهمست بصوت مرتعش:
ـ الحقني يا "ماهر" بطني بتوجعني قوي وعندي مغظ شديد.
لم يحتج "ماهر" أكثر من نبرة صوتها. التفت إليها فجأة، فرأى وجهها شاحبًا، جبينها يتصبب عرقًا، وملامحها منقبضة كما لو كانت تحارب ألمًا أكبر منها، اقترب منها بخطوات سريعة، وصوته خرج مخضوضًا:
ـ "رحمة" مالك؟ في إيه واجعك؟
جاءه الرد مع تقلصٍ آخر، جعل جسدها ينحني للأمام:
ـ الوجع مش طبيعي ده وجع ولادة يا "ماهر" .
حملها دون تردد، وضعها في السيارة، وانطلق بأقصى سرعة، يضغط على المقود ، وقلبه يسبق الطريق خوفاً عليها من ألمها وتأوهاتها العالية فهي تخوض ألم الولادة الطبيعية ولكنها في النهاية تخضع لقيصرية، ثم اتصل بوالدتها:
ـ "رحمة" تعبانة قوي، وجع الولادة اشتد عليها، احنا رايحين المستشفى دلوك تعالي لنا على هناك .
كان صوته يحاول أن يبدو ثابتًا فتلك اللحظة بالنسبة له تذكره بأمر ذكرى في حياته، لكنه كان يرتجف رغمًا عنه، كل دقيقة تمر كانت تشق صدره، وكل أنين منها يزيد خوفه، حتى لمح أخيرًا أضواء المستشفى،
استقبلتهم "سكون" فورًا، بعينين يقظتين وقلب يعرف ما عليه فعله، وجهت الممرضات، فحصت، وتابعتها، وبدأت رحلة الولادة، بينما "ماهر" يقف خارج الغرفة، يذرع الأرض ذهابًا وإيابًا، يدعو، يرجو، ويشعر أنه أضعف رجل في العالم، مرت الدقائق ثقيلة، حتى جاءه الصوت أخيرًا، بكاء صغير، لكنه كان أقوى صوت سمعه في حياته،
خرجت "سكون" بابتسامة مرهقة مطمئنة:
ـ مبروك يا ابو "فيروز" جالك ولد و"رحمة" قامت بالسلامة.
دخل بخطوات متلهفة، رآها مستلقية، متعبة لكنها حيّة، وفي حضنها طفله الصغير، ملامحه لا تزال غضة، لكن وجوده ملأ الغرفة حياة، حمله "ماهر" بين يديه، شعر بوزنه، بدفئه، بأنفاسه الصغيرة تلامس جلده،
في تلك اللحظة، لم يعد هناك خوف، ولا ذكريات مريرة، ولا وجع وخوف من الفقدان، فقط رجل يحتضن ابنه بين يديه، ويهمس بقلبٍ ممتن:
ـ الحمد لله ، حمد لله على السلامة يا حبيب بابي.
بعد مرور بعض من الوقت وقد فاقت "رحمة" كان يحتضن إبنه برعاية بين يديه يردد اسمه الذي انتقاه لحاله بصوت عالي وهو ينظر إلى ملامحه بشوق جارف:
ـ "مالك ماهر البنان" حبيب بابي نورت الدنيا كلاتها .
استمعت إلى الاسم ورددت بعناد وهي تشعر بالدوار :
ـ لااه معايزاش الاسم دي لولدي مهحبهوش أني.
رفع حاجبه باستنكار لاعتراضها لينطق بتشبس هو الأخر:
ـ وليه لاااه ؟! ماله الاسم إن شاء الله ؟
رفعت شفتيها الأعلى باستنكار وهتفت برفض شديد للاسم:
ـ وليه انت تسميه على كيفك اسم مش رايداه اني؟
نفخ بضيق من عنادها الدائم معه وتمسك باختياره للاسم:
ـ معروفه من زمان الواد هيسميه ابوه والبنت هتسميها امها، واني خلاص اخترت اسم "مالك" ولايق كمان على اسمي.
تحركت سريعاً بعفوية فتألمت من الجرح بشدة وهي تضع يدها على مكان الجرح وتأوهت بألم، فقام من مكانه وهو يحمل ابنه بإحدى يديه وبالأخرى أسندها برعاية مرددا بتحذير لما تفعله بنفسها وهي في تلك الحالة:
ـ اعقلي يا مجنونه بلاش حركة مش محسوبة انتِ لساتك خارجة من عملية، ما تهدي بقى يا هانم ،هنتخانَق على الاسم كمان وفي المستشفى وانتِ لساتك خارجة من عملية ولادة .
وتابع وهو يتراجع قليلاً كي يعرف منها الاسم الذي تريده للمعرفة فقط، فهو لن ولم يغير الاسم الذي انتقاه ولكن كي يجعلها تستريح:
ـ يا ترى رايدة تسميه ايه؟ أني عارف إن الموضوع عِند واصل، مش علشان الاسم ما عجبكيش؛ لاه؛ عشان اني اخترتَه من غير ما نقعد ليالي طَويلة نتحدت في الموضوع دي اني وانتِ، ما عرفش دماغك يعني ولا ايه يا ست "رحمة".
نظرت إليه بعين ونصف وهي تفهم أنه لن يتراجع، ولكنه يريحها فقط بالكلام، فهي تفهمه جداً بل و تعي ما يجري في عقل ذاك الداهي، لتقول له الاسم الذي انتقته للتو:
ـ اني من زمان واني هقول لو جبت واد هسميه "يزيد" ، الاسم دي هحبه من زمان وعلشان اكده رايدة اسمي ولدي "يزيد"
رفع شفتيه الأعلى باستنكار للاسم الذي انتقته محركا رأسه برفض تام:
ـ لاه، الاسم دي تَقيل وما هيليقش على اسمي واصل، "مالك" أسهل وأجمل وأشيك اسمعي مني ومتعيديش وراي.
نفخت بضيق وتشبست برأيها:
ـ لا وأني رايدة أسميه "يزيد" واني مصممة على الاسم يا "ماهر" ، ولعلمك بقى "يزيد" هو اللي أجمل وأشيك وأسهل وما تعيدش انت وراي.
ضـ.ـرب كفا بكف لعنادها فالتمعت عيناها وهي تردد بطفولة:
ـ طب خلاص الفيصل بيني وبينك نعمل قرعه حادي بادي ونشوف مين فينا اللي هيكسب.
برقت عينيه بدهشة مما تفوهت به ومن عقلها الصغير لينطق بسخرية:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله، انتي لساتك عيلة صغيرة يا رحمة؟ بقى عايزاني اسمي ولدي على لعبة بخت؟!
شكلك ما وعياش هتتحدتي ويا مين يا بت "سلطان" ، هسميه "مالك" يعني هسميه "مالك" ولا حادي ولا بادي دي عاد، عيل صغير إياك وياكي .
ذمت شفتيها كالاطفال ولم يعجبها فرض هيمنته وسيطرته عليها في اختيار اسم ابنهما وكبر الموضوع في عقلها وقالت:
ـ يكون في علمك بقى طالما انت ما راضيش على الاسم اللي اني اختَرته يُبقى انت كمان مش هتسمي الاسم اللي على كيفك وهنخلي "فيروز" هي اللي هتسمي اخوها واللي هتختارَه هو اللي هيمشي.
ابتسم بمكر ودهاء وحرك رأسه للأمام بموافقة وهو يناولها الطفل:
ـ تمام خلي الواد جارك هجيب "فيروز" من برة مع جدتها هتوكلها، واعملي حسابك اللي هتختارَه "فيروز" هو اللي هيمشي وانتِ اللي حكمتي ومش هنراجع وراها تاني.
حركت رأسها بموافقة وهي تنظر إليه بشك:
ـ اني عارفاك ممكن على ما تجيبها وتاجي تكون حفظتها الاسم .
قهقه عالياً ليخرج من أمامها وهو يردد بنفاذ صبر:
ـ ما لكيش حل يا "رحمة" والله سوسة ودماغك في الشك ما عندهاش ياما ارحميني وجلابة خناقات ومشاكل.
في الخارج كانت "فيروز" تاكل من يد "زينب" وهي تشعر بسعادة عارمة لقدوم أخيها :
ـ اني فرحانة قوي يا ستو علشان بقى ليا اخ هلعب معاه وهشيله وهحضنه.
قبلتها جدتها بفرحة وهي تهدهدها:
ـ ربنا يبارك فيكم ويخليكم لبعض يا حبيبة ستو، قولي لي بقى هيُبقى اسمه ايه؟
أتى "ماهر" في تلك اللحظة وهو يسمعها تنطق اسم اخيها وهي تصفق على يديها بسعادة:
ـ "مالك" هسميه "مالك" ، بابا كان هيقول لي على الاسم دي من يومين بس قال لي خليها مفاجأة لماما واني حبيت الاسم قوي يا تيتة.
جذبها "ماهر" إلى أحضانه وهو يقبلها بنهم مستئذناً من "زينب" :
ـ حبيبة بابي تعالي علشان مامي فاقت ورايدة تشوفك، وانتِ كمان يا حاجة تعالي اطمَني على الولد وعلى "رحمة" هي خلاص فاقَت.
ـ حاضر يا ولدي خد "فيروز" وادخل واني هروح اغسل يدي وهلم الوكل وهاجي وراكم طوالي.
أخذ "ماهر" ابنته ودلف إلى زوجته وهو يحتضنها برعاية وما إن رأت الطفلة والدتها وأخيها حتى انطلقت من حضن ابيها وهي تجلس بجوار والدتها وتقبل أخيها من رأسه بحنو ورددت بما صدم "رحمة" وجعلها فقدت النطق وهي تنظر إلى "ماهر" بغيظ شديد:
ـ الله جميل قوي يا بابي ملوكي.
رفع "ماهر" يديه في الهواء باستسلام وهو ينظر إليها بانتصار ناطقا وهو يبرئ حاله بمكر:
ـ والله ما اتكلَمت ولا قلت لها كلمة واحدة واسألي الحاجة "زينب" .
جزت "رحمة" على أسنانها بغيظ شديد ووجهت حديثها إلى ابنتها وهي تسألها:
ـ ايه رأيك في اسم "يزيد" اسم مختلف وجميل ومحدش مسميه خالص .
تبدلت معالم الطفلة لنتذكر ذاك الفيلم التي تحبه ونطقت ببراءة:
ـ مش" يزيد" دي اللي هيغنوله مين حبيب بابا "يزيد" ؟
ابتسمت "رحمة" بانتصار وقالت بتشجيع:
ـ ايون هو دي، وانتي كمان هتحبي الفيلم دي واصل ، ايه رأيك بقى نسميه "يزيد" وكل شوي تغني له الغنوة داي .
استنكرت الطفلة ذاك الاسم وتفوهت ببراءة:
ـ لااا يا مامي معيزاش حد يعمل أخوى غنيوة، أني نفسي أناديه "ملوكي" .
اغتاظت "رحمة" بشدة من اتفاق ابنتها مع أبيها ورددت بحزن لهم:
ـ يعني اتفقتو علي انتو الاتنين ماشي، أني بقي معيزاش الاسم دي واصل .
ظلت الطفلة تحايلها كثيراً وهي تقبلها من يديها ورأسها ووجنتيها إلى أن وافقت أمام محايلتها، وجلست بجانب تخت الطفل تداعبه فاقترب "ماهر" منها هامسا بجانب أذنها بعبث:
ـ شكلك زي القمر وإنتي زعلانة ومناخيرك لسه منفوشة كيف ما تكوني حامل لسه ، وكمان الكرش اللي كنتي هتتضايقي منيه لساته كيف ماهو .
ضـ.ـربته بقبضة يديها في صدره مما آلامه ورددت :
ـ تعرِف انت إن ما كنتش هتبطِل طريقك تدس السم في العسل بكلامك وياي اني مش هعرف اسكت لساني عنك تاني يا ابو العيال، وبعدين اني خارجة من ولادة والهرمونات حداي بعافية لمدة كذا شهر اكده ما تعرِفش عددهم، وبزياداك مكر عاد، كفاية اتفقت علي انت وبتك وسميت ولدي كيف ما انتم عايزين، واني امه اللي تعبت فيه حمل تسع شهور وولادة ولسه رضاعة وتربية وسهر مش من حقي اختار حتى اسمَه ما حدش تعب فيه غيري.
نظر إليها بمكر وردد باستنكار عابث:
ـ نعم يا بت سلطان ؟!
تعبتي فيه لوحدك كيف عاد !
وتابع بغمزة شقية وهو يقرصها من وجنتيها:
ـ اني اكتر واحد تعبت علشان الواد دي ياجي، ولا انتم يا جنس حواء عاملين زي القطط هتاكلوا وتنكروا دي اني هلكت بنزين كتير قوي والليالي تشهد علي طالما انتي هتنكري تعبي.
دفعته في صدره وقالت :
ـ آه يا وقح، انت بجد اللي يشوف هيبتك في المحكمة ومشيتك وانت شايل شنطتك ما يشوفش كلامك السافل دي يا متر .
عدل حجابها على رأسها وخبأ خصلاتها بإحكام:
ـ اذا كان على الوقاحة فداي ما كذبتيش فيها اني وقح يا ستي، وإذا كان على السفالة اني سافل يا ستي، ما هو انتم الستات اللي بتضيعوا هيبه الراجل وبعدين اني حر اقول اللي على كيفي لمرتي .
وظل يشاكسها حتى دخلت "زينب" و"سكون" وأخيها "عمران" و"حبيبة" وتجمعوا حولها جميعا يباركون لها ويخففون عنها ألم الوضع .
*********
ـ مين مع المتر جوة عايزة أدخل له ؟
أجابها مدير مكتبه :
ـ عميلة مهمة يا أستاذة والمتر مانع دخول أي حد .
ـ عميلة؛ ومانع؛ ومهمة! ... قالتها بغيرة شديدة وهي تدق على المكتب بإحدى يديها بعـ.ـنف وقد اغتاظت بشدة:
ـ يعني ايه مهمة ومانع؟ طب اني هدخل له دلوك ومحدش هيقدر يمنعني.
منعها مدير مكتبه وهو يشير بيديه معترضاً :
ـ يا أستاذة "رحمة" المتر قرب يخلص، يعني بالكتير ربع ساعة.
لم تستطع صبراً وفعلت الغيرة بقلبها الأفاعيل وهي تتحرك يميناً ويساراً بغيظ شديد ولم تتحمل فكرة وجود إمرأة في مكتبه وحدهم وسألت باستنكار:
ـ هو من ميتة المتر هيقابل العملا بنفسه ولا الكلام دي بقى يُحصُل عاد؟
أجابها مدير مكتبه عن ماهية المرأة بالتفصيل ولكن جوابه أشعلها أكثر :
ـ المتر فعلاً مهيقابلش عملا، لكن داي استسناء هي اللي طلبت تقابل المتر بنفسها ومش حابه اي حد يعرِف عن مشكلتها لانها بنت عضو مجلس الشعب وتقريبا في مشكلة كَبيرة ما بينها وما بين طليقها بسبب ابنهم، ومش حابه اي حد في المكتب يتدخل غير المتر.
برقت عيناها بصدمة وأعادت آخر كلامه بغيظ شديد:
ـ مطلقة ورايداة تقابل المتر نفسه!
طيب كلمه دلوك وخبره إني برة وعايزاه دلوك يعني دلوك وإلا هدخل بنفسي.
حاول تهدئتها لكسب الوقت وإشغالها بأي كلام ولكن لا جدوى مع تلك العنيدة لتأمره مجدداً أن يخبره، فاضطر إلى فعل ما تريد وأمسك الهاتف وأخبره بطلب "رحمة" فآتاه الرد من "ماهر" بعملية:
ـ خليها تستنى عشر دقايق كمان واطلب لها قهوة، خلاص قربت أنهى مع العميلة.
ما ان سمعت رده وكأنه أشعل الفتيل داخلها و هبَّت متحركة من مكانها وخطت إلى المكتبة وفتحت الباب بعنفوان أشعل غضب ذاك الـ"ماهر" الذي نظر إلى العميلة بحرج واعتذر لها عن حركة تلك الهوجاء التي استشاطت غضبا من اعتذاره وقام من مكانه بخطوات نارية مقتربا منها هامسا بفحيح:
ـ ايه الهمجية داي يا "رحمة"! لمي الدور وعيب اللي هتعمليه دي واستنيني برة.
سكونٌ ثقيل لا يقطعه سوى صوت عقارب الساعة المعلّقة خلف مكتب "ماهر"، وصوت أنفاسٍ متحفّزةٍ خرجت من صدر "رحمة" وهي تقف عند الباب المفتوح، عيناها مثبتتان على المرأة الجالسة أمامه، امرأة أنيقة، ملامحها جامدة، جلستها مستقيمة كأنها في مواجهة خصم لا محامٍ :
ـ وايه الجلسات السرية داي يا متر! من ميتى وانت هتستقبل الحريم المطلقة في مكتبك؟!
هو للدرجة داي مستوى المكتب بقى هابط لدرجة إنك تستقبل حريم فيه لحالك؟
رفع "ماهر" رأسه ببطء، لم يعلُ صوته، ولم يبدُ عليه الارتباك، لكن النظرة التي رمق بها "رحمة" كانت كافية لتُدرك أنها تجاوزت حدًّا لا يُستهان به، تقدّم خطوة واحدة فقط، ثم مال قليلًا نحوها، صوته خرج منخفضًا، حادًّا، كالسِّكين:
ـ إنتِ عارفة إن اللي هتعمليه دي غلط، يمين بعظيم يا "رحمة" في رمشة عين ان ماختفتيش دلوك وبطلتي هبل وشغل العيال اللصغيرة دي لا هيُبقى يوم مش معدي.
لم تجبه فورًا، ظلّ صدرها يعلو ويهبط، وعيناها لا تفارقان المرأة الأخرى، كأن وجودها وحده استفزاز، قبل أن تنطق، كانت الوكيلة قد اعتدلت في جلستها، ونقلت بصرها بينهما باستغرابٍ واضح، ثم قالت بنبرة رسمية لا تخلو من الضيق:
ـ أستاذ "ماهر"، لو سمحت، أني مستغرِبة اللي حُصل دي جدًا، المقابلة داي كانت باتفاق مسبق، وعلى أساس الخصوصية التامة.
أومأ "ماهر" برأسه مرة واحدة، احترامًا، لا اعتذارًا، ثم قال بصوت ثابت:
ـ مع حضرتك يا هانم، وأني بعتذر عن المقاطعة دي ثواني وراجع لحضرتك.
التفت بعدها إلى "رحمة"، نظر إليها نظرة طويلة، ثم قال بهدوءٍ أشد قسوة من الصراخ:
ـ اتفضلي استنّي برّه يا "رحمة" دلوك متعصبنيش.
انتصب ظهرها أكثر، وكأن الكلمة لم تُقال لها، ردّت بنبرة ناشفة، خالية من الانفعال الأعمى، لكنها مشحونة بالغيرة المكبوتة:
ـ لما تُبقى المقابلة بالشكل السري الخطير دي يُبقى الأولى أعرف دي مكتب الخط ولا بقى قهوة للمقابلات.
رفعت الوكيلة حاجبها بدهشةٍ أكبر، التفتت إلى "ماهر" مباشرة:
ـ لو في ظرف خاص، نأجّل المقابلة، أني مش حابة أكون سبب إحراج لأي طرف، وكمان مهحبش الاقتحام اللي ملوش لزوم في مكتب له اسم گبير كيف مكتبك يا متر.
ردّ "ماهر" فورًا، بحسم:
ـ لا، يا فندم، المقابلة مكملة ومفيش أي مشاكل.
ثم التفت إلى "رحمة" مجددًا، نبرته لم تعلُ، لكنها حملت تحذيرًا صريحًا:
ـ برّة دلوك.
ساد صمت ثقيل، لحظة اختبار حقيقي، "رحمة" لم تصرخ، لم تتهجّم، فقط رمقت الوكيلة بنظرة باردة، وقالت وهي تجز على اسنانها بغضب شديد:
ـ طيب يا "ماهر" والله ماهعديهالك واصل، أني ماشية والليلة مش هتعدي على خير النهاردة ، وابقى خلي السمجة داي تنفعك .
ثم استدارت وخرجت، أغلقت الباب خلفها إغلاقًا عاصفا جعله توعد له في سره بأشد الويلات على أفعالها المتهورة تلك،
لم تمر سوى دقائق قليلة، أنهى "ماهر" مقابلته باحتراف كامل، وقفت الوكيلة، جمعت أوراقها، وقبل أن تخرج قالت بجدية:
ـ مع احترامي لحضرتك، اللي حُصل دي ما ينفعش يتكرر، خصوصية العميل خط أحمر.
أجابها بثبات:
ـ مفهوم يا هانم، دي ظرف طارئ وانتهى .
خرجت، وأغلق الباب ،لم يستدر "ماهر" فورًا، خلع نظارته ببطء، وضعها على المكتب، ثم مرّر يده على وجهه كمن يكبح بركانًا ثم هاتفها:
ـ ممكن تشرحي لي اللي حُصل منك دي لازمته ايه يا هانم ؟
كانت عيناها تلمعان بغضب شديد، لكن صوتها ظل متماسكًا:
ـ تحب تشرح لي إنت ليه بتقابل ستات بنفسك مع إننا متفقين، لاه وكمان مصرّة تقابلك لحالها، ولا لبسها ونظراتها اللئيمة كماني ؟
ابتسم ابتسامة قصيرة على جنونها وغيرتها المشتعلة كنت فلشثم برر:
ـ لأنها وكيلة مميزة، وعِندها مشكلة خاصة ومش حابة تشرحها لأي محامين شغالين في المكتب وانتي خابرة زين العملاء المميزين بيبقى شغلهم عامل كيف؟
انفعلت بشدة من تبريراته لتنطق بصوت عالي أزعجه كثيرا:
ـ هتقول مميزة ؟! ما تغور بمميزاتها الملزقة داي، عينك ما كانَتش شايفة لبسها، داي كانت عريانة اكتر ما هي لابسة، كيف تدخل واحدة زي داي مكتبك؟! ينعل ابو التمييز بتاعها في الارض.
انزعج هو الاخر من صوتها العالي عليه ليرتفع صوته هو الآخر ناهرا إياها:
ـ الزمي حدودك يا هانم، واعرفي انك بتتكلَمي ويا جوزك يُبقى توطي صوتك العالي دي، وحذاري يا "رحمة" تعلي صوتك بالطريقة داي تاني عليا، قسما بالله هكسر لك دماغك ميت حتة.
لم تتحمل صياحه بتلك الطريقة لتهتف بغضب جم أذهله :
ـ تكسِر لي دماغي أني علشان بطالب بحقي؟! طب تمام يا "ماهر".
قالتها وأغلقت الهاتف في وجهه وهي تستعر نيرانا ملتهبة، اما هو نظر إلى الهاتف الذي أغلقته في وجهه وعلامات الوجوم على وجهه لاتبشر بالخير أبدا وحمل مفاتيحه وأشيائه وتوعد لها أشد الويلات.
عاد من عمله، وما إن وطئت قدماه البيت حتى توقّف عند ذاك المشهد؛ فوضى عارمة تملأ المكان، لا شيء في موضعه، وثياب مبعثرة كأن إعصارًا مرّ من هنا، وصوت بكاء "فاطمة" يتسرّب من المطبخ وهي تكلّم نفسها،
تخطّى الأشياء المبعثرة من ملابس وألعاب وبواقي طعام المتناثرة بخطوات مثقلة بالدهشة، فلم يكن يتخيّل يومًا أن يرى بيته على هذه الحال، ولا سيّما أنّ "فاطمة" كانت عنوان النظام، ولا تحتمل الفوضى طرفة عين،
دخل المطبخ، فوجدها تحمل ابنتهما بيد، وبالأخرى تقلّب الطعام، شعرها منكوش، وملابسها في فوضى تشبه حالها؛ سروال مائل، وقميص نصفه داخل ونصفه خارج، وملامح أنهكها التعب حتى آخره،
رفع بصره إليها باستغراب، ثم سألها بدعابة، متظاهرًا بالاختباء خلف الجدار، كأنّه يحاول أن يخفّف وطأة المشهد بابتسامة:
ـ ايه ده حرامية دخلت المطبخ عندنا انطقي فين مراتي؟ فين "فاطمة"؟ وشايلة بنتي على ايدك ليه؟
رأى نظراتها المشمئزة له والتي تحمل من الغضب الشديد فتابع بخفة:
ـ هاتي بنتي من ايدك كل الا بنتي.
قبل أن تناوله الطفلة قذفته بالملعقة الخشبية الممتلئة بصلصة الطماطم حتى تناثرت قطراتها الحمراء على وجهه جعلتها ضحكت وهي تناوله الطفلة لتقول من بين ضحكاتها الممزوجة بالدموع :
ـ أحسن علشان تحرم تمسك على عندي اتفضل بتك المجنونة شبهك اهي.
وأكملت بحسرة على حالها وهي تقلب الطعام:
ـ كان مالي آني ومال الجواز كنت قاعده في بيت ابوي معززة مكرمة، الوكل فطار وغدا وعشا هياجيلي لحد عِندي، دلوك ولا عارفة اكل ولا اشرب ولا انام ولا حتى اسرح شعري، وحتى لما باجي اخذ دش كيف الخلق هاخده على فترات، وزن وعياط وما شفتش النوم من بقى لي يومين، والبيت يضرب يقلب اني هموت، أعااااااا اني جاي لك اكتئاب.
كان يمسح ملابسه بالمناديل الورقية وهو يضحك على صياحها بشدة ثم قبل ابنته وهو يدافع عنها:
ـ ما البنت نايمة في حضني ساكتة اهي زي الملايكة انتي اللي مفترية، البنت اهي هادية زي الملاك البريء وانتي اللي ما بتعرفيش تتعاملي معاها، كل حاجة عندك زعيق وعصبية، اهدي يا ماما ونظمي نفسك وانتي هتعرفي تتعاملي مع البنت ومع البيت ومع حياتك، ولا هي هرمونات الاكتئاب ما بعد الولادة طفحت عليكي دلوقتي ومستنياني لما ارجع من الشغل اشوف المناظر الهباب دي، منه له .
ما إن سمعت كلماته واتهامه لها بالدلال والعجز عن تنظيم حياتها، حتى حدّقت فيه بعينٍ تنطق شرار، وصرّت على أسنانها غضبًا، ثم أقدمت على ما لم يتوقّعه؛ أطفأت النار عن الطعام وهو ما يزال نيئًا،
واقتربت منه بخطى ثابتة، وضعت يدها على كتفه، ونطقت بكلماتٍ صدمته وأربكت يقينه،
كان غضبها سيفًا مُشرَعًا خرج من غمد الصبر:
ـ بقي أني بدلع ومعارفاش انظم حياتي؟!
طب ماشي بتك الملاك اهي وياك اني هطلع اخد دش واسرح شعري وانام وما تصحينيش قبل ما استكفى نوم لاني اني واحدة ما نمتش بقى لي يومين وانت بتشخر جنبي، واقول لك بالليل قوم شيل البنت تقول لي خديها وروحي الأوضة التانية، حذاري يا "أشرف" تاجي ناحيتي، وشوف بتك الملاك ووكل نفسك ونضف المكان وريني كيف النظام بيكون.
ثم همست بجوار أذنه وهي تنظر إلى عينيه المتسعتين بصدمة من قرارها:
ـ وبالمرة ابقى غير لها البامبرز واعمل لها رضعة وابقى كرعها.
ـ أكرعها كمان؟... نطقها بانزعاج شديد وتابع وهو ينادي عليها حينما رآها جرت من أمامه:
ـ خدي يا بت هنا رايحة فين، انا راجع من الشغل تعبان وعايز اكل واستريح وادلع وأتعامل معاملة سي السيد خدي هنا يا بت .
لم تستمع إلى ندائه وكأنه طوق النجاة فهي لم تستطيع فتح عينيها وأول شيء فعلته انطلقت إلى السرير دون أن تتنعم بحمام كما كانت تريد، ولم تلبس دقيقة واحدة حتى ذهبت في سبات عميق،
اما هو في الأسفل كان يردد لابنته التي تنظر إليه ببراءة :
ـ بقى انا يا صغنن انت اشرف يغير بامبرز ويعمل رضعة ويكرع كمان! منه له ، تعالي يا حظي تعالي يا حبيبة بابي يا اللي وحشاني خالص.
ظلّ يُقبّلها ويحتضنها، ثم بدأ يغيّر لها الحفّاض، وأعدّ لها الرضعة فأرضعها حتى شبعت، وأخذ يربّت عليها برفق، ثم حمّمها وبدّل لها ثيابها، وظلّ يتجوّل بها ويغنّي حتى هدأت واستسلمت للنوم،
أدخلها إلى سريرها، ثم التفت إلى الفوضى التي تملأ المكان، فجمع الأشياء ووضع كلًّا منها في موضعه، وشغّل المكنسة حتى عاد البيت نقيًّا كأن لم تمسّه فوضى،
دخل المطبخ وأكمل الطعام الذي كانت "فاطمة" تُعدّه، وقد مضت قرابة ثلاث ساعات، ثم صعد ليوقظ "فاطمة" ليتغدّيا معًا،
جلس جوارها على السرير، وراح يمرّر يده على شعرها بحنانٍ صامت، كان حنانه عليها كغيمةٍ مثقلة بالمطر، لا تفرغ دفئها إلا على من تحب:
ـ قومي يا يا بت يا "بطة" كفاياكي نوم علشان انا جعان ومش عارف اكل من غيرك يلا قومي يا كسولة انتِ بقالك داخلة على أربع ساعات نايمة.
لكزته في جنبه بقبضة يديها وهي تنهره بعيناي يغشاه النوم ويثقلها:
ـ يا ابني قلت لك 100 مرة ما تقوليش "بطة" دي تاني، انت عارف ما هحبش الاسم دي واصل .
اقترب منها وردد ماكراً:
ـ شعرك منكوش وحالتك ما يعلم بيها إلا ربنا ايه يا ماما متجوز أمنا الغولة، ما انا شفت اختي وهي مخلفة ما كانتش بالمنظر ده يعني.
مطت شفتيها بغيظ وهتفت باستنكار:
ـ وانت كنت قاعد مع اختك ليل ونهار علشان كنت هتشوف حالها ازاي قولي الامهاتك اكده واصل.
سحبها إلى أحضانه وهو يهددها بحنون بالغ مرددا :
ـ ولا يهمك يا حبيبي يلا قومي كل حاجة تمام هتنزلي هتلاقي الشقة زي الفل والبنت نايمة والأكل اتعمل يا دوب هتاخدي شاور وناكل مع بعض علشان انا جعان جدا، ويكون في علمك انا بهزر معاكي، انا عارف ان الأمومة صعبة جدا، وعارف كمان انك لوحدك ولا جنبك أمك ولا أختك ولا أي حد علشان كده اما تلاقي نفسك تعبانة سيبي كل حاجة واهتمي بنفسك وبنتنا وكل حاجة هتتعمل، ما فيش اهم منكم عندي.
خرجت من حضنه واحتضنت وجنتيه بين كفاي يديها ثم اقتربت وقبلت يديه بامتنان:
ـ شكرا جدا يا "أشرف" ، على انك مقدر تعبي ومش زعلان من تقصيري معاك، ولا من تقصيري في البيت، شكرا انك بتحاول تعوضني عن بعد اهلي عني، شكرا على انك في حياتي انت وبتنا، اني بجد بشكر ربنا عليكم انتم الاتنين نعمة من عنده سبحانه وتعالى ربنا يخليكم ليا يا رب.
غمز لها بإحدى عينيه بشقاوة:
ـ طب بقول لك ايه احنا نلغي الأكل ونلغي الشاور ونلغي كل حاجة دلوقتي وتعالي عوضيني عن تقصيرك معايا قبل البنت ما تصحى.
ضحكت بخجل لتمازحه:
ـ انت قليل الأدب على فكرة.
ـ أيوه ما انا عارفني، انا بموت في قلة الأدب أصلا.
ـ طب وسع خليني اخد دش علشان مستحمتش بقالي يومين .
ـ يععع وانا اقول الريحة العكرة دي جاية منين اتاريها منك انتي.
ـ بقى أني ريحتي عكرة ، طب خد بقى.
وقذفته بالوسادة وورائها الأخرى وهو يتفاداها بضحك شديد على كلماتها وانتهى الأمر وهو يسحبها الى أحضانه الحانية بشعور الارتياح والسعادة.
********
عاد من المكتب وهو يغلي غضبًا، نار السخط تعصف بصدره بعد أن أغلقت الطريق في وجهه، وأغلقت الهاتف بجرأةٍ لم يحتملها، فتوعدها في سرّه بأشدّ العواقب، متسائلًا كيف تجرؤ على قطع صوته وهو يحدّثها،
كان غضب الدنيا قد استولى على عينيه، وحين بلغ البيت ورآها، قرأت في ملامحه العاصفة قبل أن ينطق، فهربت كطفلةٍ مذعورة، تعدو نحو غرفتها بلا وعي وصعدت الادراج سريعاً وما إن رآها حتى اندفع خلفها محاولًا اللحاق بها قبل أن تُغلق الباب، لكن خطوتها كانت أسبق، فدخلت غرفتها وأوصدت الباب بالمفتاح، وبدأت تسحب كل ما طالته يدها لتكدّسه خلفه، وقلبها يرتجف رعبًا،
وصل بعدها بلحظة، فضـ.ـرب الباب بقبضته الغاضبة، وصوته يفيض تهديدًا، كأنّ العاصفة وجدت أخيرًا جدارًا تصطدم به،
فكان غضبه في تلك اللحظة كريحٍ سوداء تضـ.ــرب المكان بلا رحمة، وكان خوفها كغزالٍ حاصرته النيران من كل الجهات، حتى قال بفحيح....
